الفسيفساء فن قديم لم يعترف به وبفنانيه إلا حديثا

خلد الفنانون القدامى منذ قرون خلت فن الفسيفساء ليكون أحد الفنون التي اشترك الإنسان في تخليدها من روما إلى مصر إلى حضارات أميركا اللاتينية إلى الحضارة الإسلامية وغيرها، ولكن هذا الفن شهد التعامل معه بدونية ونظرة فوقية مع عصر النهضة الفنية في أوروبا، نظرة لم يتخلص منها إلا مع ظهور تيارات الفن الحديث الثائرة.
شكلت الفسيفساء حضورا واسعا في التاريخ القديم والحديث فعرفتها بلاد ما بين النهرين القديم في معبد “أور” و”أورك” في الوركاء الذي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وانتشرت في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية الغربية وإلى سوريا وحوض البحر المتوسط وشمال أفريقيا وفرنسا وذلك ما بين القرنين الأول والثالث الميلادي.
واستمر استخدام هذا الفن بكثرة حتى قدوم الدولة الإسلامية، حيث قام الفنانون المسلمون باقتباس هذا الفن واستخدامه في زخرفة وتزيين المساجد والقصور وخاصة في عصر الدولة الأموية ومن الأمثلة عليها قبة الصخرة المشرفة وبعض القصور الأموية في سوريا وصور مثل قصر المنية وعمرة وغيرها. وامتد ذلك إلى العصر الحديث يتم استغلالها عبر تنفيذ لوحات فنية كبيرة لتزيين الجدران العامة أو المباني مع استعمال الفصوص الحجرية أو الفصوص الزجاجية.
فن عريق ومظلوم
يتناول كتاب “الفسيفساء تاريخ وتقنية” للباحث محمد سالم فن الفسيفساء من زاويتين، أولهما الزاوية التاريخية حيث أول أشكال الفسيفساء التي عرفت في الحضارة السومرية منذ الألف الرابع قبل الميلاد يعقب ذلك الفسيفساء اليونانية. فسيفساء الحصى ثم فسيفساء التسرات التي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، يلي ذلك الفسيفساء الرومانية ثم الفسيفساء البيزنطية التي بلغت الذروة من حيث جماليات وتقنيات هذا النوع من الفن.
ومع عصر النهضة الأوروبية وابتكار التصوير الزيتي على مدى الأربعة قرون التالية لعصر النهضة، ومع بدايات القرن الماضي وفي إطار حركات التحديث في مجالات الفن المختلفة شهدت الفسيفساء حركة بعث وإحياء سواء في علاقتها بالعمارة أو كوسيط تعبيري ذاتي عند العديد من الفنانين. أما الزاوية الثانية للكتاب فهي تتناول الجانب التقني الذي يعرف بأهم الخامات والأدوات وطرق التنفيذ قديما وفي الوقت الحاضر.
ونتوقف هنا في العصر الحديث حيث يرى سالم أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وفي إطار الثورة الشاملة في الفنون عامة على المفاهيم الأكاديمية للفن الأوروبي وتراث عصر النهضة والعودة إلى دراسة الفنون القديمة التراثية، سواء في الحضارة الأوروبية أو غيرها من الحضارات، في إطار ذلك ظهر بعض الفنانين الرواد في تناول هذا الفن العريق ـ الفسيفساء ـ تناولا مغايرا بالكامل لما كان سائدا في القرن التاسع عشر من تناول هزيل محدود يدور في حدود الصنعة والمهارة الحرفية لا أكثر.
من هؤلاء الفنانين المعماري الإسباني أنطونيو جاودي (1962 ـ 1885) الذي استخدم الفسيفساء استخداما له حضوره المؤثر والمكمل لتصميماته المعمارية المتميزة. ومنهم المصور النمساوي جوستاف كليمت (1918 ـ 1862) الذي استخدم الفسيفساء استخداما شديد الخصوصية قائما على توظيف خواص وإمكانات خاماته الثمينة التي استخدمها في تنفيذ ـ عمله الوحيد في الفسيفساء ـ من زجاج ملون وأحجار كريمة أو نصف كريمة ورقائق الذهب والنحاس وغير ذلك، وجينو سيفيريني فنان المستقبلية الإيطالي الذي ينظر إليه باعتباره أهم المنظرين لفن الفسيفساء الحديثة والذي تأسس باسمه معهدان لدراسة هذا الفن دراسة علمية منتظمة أحدهما في باريس والثاني في روما.
ويكشف سالم أنه حتى أوائل القرن الماضي كان ينظر إلى الفسيفساء على أنها مجرد حرفة أو فن زخرفي لا يرقى إلى مستوى التصوير أو النحت، وكان من الصعب معرفة فنان بعينه يعمل في هذا المجال مقارنة بمجالات النحت أو التصوير، بل كان ينظر إلى الفسيفساء وإلى أزمنة طويلة عند علماء الآثار ومؤرخي الفنون القديمة على أنها أحد الفنون الصغرى، وإن كانت لها من أهمية فإنما يأتي ذلك من كون الفسيفساء عاملا مساعدا في دراسة أعمال التصوير القديمة التي لم يتبق منها شيء مثل فسيفساء معركة “الإسكندر وداريوس” الباقية من آثار بومبي والتي يقال إنها استنساخ لأحد أعمال التصوير اليونانية التي لم يعثر عليها حتى الآن.
وحتى أوائل الستينات من القرن الماضي كان فنانو الفسيفساء يعملون منعزلين بعضهم عن البعض الآخر، لم يقابل أحدهم الآخر أو ربما لم يسمع به أو يدخل معه في حوار أو يتبادل معه أي نوع من الخبرة. ولكن بعد ظهور بعض المؤلفات المهمة في هذا الفن التي نشرت في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي تغيرت النظرة إلى الفسيفساء، رغم أن هذه الكتابات كانت تتحدث عن مرحلة تاريخية معينة، لكنها ألقت الضوء على هذا النوع من الفن التاريخي القديم.
وكان لعام 1963 أهمية خاصة فقد اجتمع العديد من علماء الآثار في باريس في مؤتمر للفسيفساء دعى إليه المركز الوطني للبحث العلمي وترتب عليه تأسيس “الجمعية الدولية لدراسات الفسيفساء القديمة”، وفي عام 1984 تأسست الجمعية الدولية لفناني الفسيفساء المعاصرين في رافنا، وكان من أهم أعمالها تنظيم مؤتمر أو معرض كل عامين للفنانين المعاصرين من أعضائها.. لتتواصل بعد ذلك المعارض والمؤتمرات في كل أنحاء العالم.
الفسيفساء ليس حرفة
يؤكد سالم أن هذا الفن القديم هو في حقيقته محمل بأكثر من مقومات الحداثة، فهو بطبيعته وخواصه شديد القرب من مفاهيم الفن الحديث، فيه التنقيطية قبل سوراه بقرون أيضا، ويقوم في جانب منه مفهوم الكولاج والمونتاج، وفيه تعظيم لدور الخامة والقيمة الملمسية في العمل الفني التي انشغل بها الفنانون المحوثون منذ التكعيبية، وله استخدامه الواسع في العمارة الحديثة..يضفي الحيوية كما يقول بيتر فيشر على المسطحات والحوائط الممتدة، وخصوصا في العمارة المدنية بعد أن ظل لأكثر من 1500 سنة شديد الارتباط بالعمارة الدينية.
ويلفت إلى أن الانتشار الواسع للفسيفساء الحديثة يعود لسهولة الحصول على الخامات والأدوات اللازمة للتنفيذ مما جعل العمل بهذه التقنية أمرا ميسورا مقارنة بالعصور السابقة عندما كانت الفسيفساء تقنية مجهدة ومكلفة تتطلب الكثير من الجهد والوقت والتكلفة المالية في تنفيذها.
وفي دراسته يحاول سالم الجمع بين تاريخ وتقنيات وجماليات هذا الفن العريق، وربما تصويب النظر إلى الفسيفساء التي ينظر إليها في مصر عند الكثيرين نظرة دونية، وقد ساعد في ترسيخها الظروف التاريخية التي عرفت فيها الفسيفساء في مصر، فقد عرفتها مصر الحديثة ضمن ما عرفت من فنون تدرس في كليتي الفنون التطبيقية والجميلة، والتي كانت امتدادا لمفاهيم الفن الذي ساد في أوروبا خلال القرن الـ19 الذي تحولت الفسيفساء خلاله من كونها فنا قائما بذاته له خصائصه وجمالياته وتفرده إلى كونها مجرد وسيلة لتنفيذ أعمال التصوير بخامات صلبة لها صفة الدوام ومقاومة عوامل التلف، وفي النهاية تحولت إلى مجرد حرفة يتم تصنيع الفسيفساء في ورش.
ويرى سالم أن الفسيفساء لم تكن مجرد تجميع لقطع من خامات متناثرة، بل كانت معالجة لأسطح بخامات مختلفة لأغراض السحر إلى جانب إشباع النزعة التجميلية عند الإنسان البدائي، ولذلك يمكن الرجوع بفكرة الفسيفساء أو ما يقرب منها إلى العصر الحجري القديم عندما كانت تجمع العظام والأصداف وأسنان الحيوانات والأحجار وغير ذلك لأسباب طقوسية وسحرية. ويقترب من ذلك ما عرف في أميركا اللاتينية قبل كولومبوس باسم فسيفساء الريش التي تعود جذورها للأيام المبكرة للإنسان البدائي. وهو تجميع ريش الطيور بأشكاله وألوانه المختلفة على أسطح حاملة وأحيانا يثبت هذا على أجسام الآدميين. وإلى وقت قريب كان السكان الأصليون في أستراليا يثبتون الريش الملون على أجسامهم في أنساق معينة لأغراض طقوسية أو سحرية.
وفي جميع الأحوال فإن المدلول اللغوي لكلمة فسيفساء يمكن أن يستوعب الكثير من أعمال الفن التي تقوم على فكرة التجميع لخامة أو عدة خامات مختلفة على سطح حامل لتكوين شكل زخرفي أو تصويري لموضوع أو قصة وغير ذلك. ولكن ما هو جدير بالاهتمام في تعريف الفسيفساء من الناحية الجمالية هو أنها ليست حشوا للمساحات أو عناصر العمل الفني بهذه القطع الصغيرة من خامات التنفيذ، بل الأهم هو كيفية تجاور هذه القطع الصغيرة بإيقاع معين وضمن سياق معين يضع في الاعتبار التنوع في أحجام القطع وفي ألوانها وملامسها واتجاهاتها وترك الفواصل المناسبة بين القطعة والأخرى لتأكيد قيمة التجزيء التي هي من أهم سمات هذه التقنية. كل ذلك يلعب دورا أساسيا من حيث القيمة الجمالية للفسيفساء، وهو ما يعرف في تقاليد التقنية عند الإيطاليين بمصطلح “الأندامنتو” بمعنى اتجاه ومسار صفوف التسرات على سطح العمل.
تقنيات الفسيفساء
يقول سالم إن الفسيفساء التي يتناولها هي تلك التي عرفت بدءا من المرحلة اليونانية ثم الرومانية وما بعد ذلك، والتي ارتبطت بكونها فسيفساء أرضيات منذ نشأتها اليونانية حتى القرن الأول الميلادي من المرحلة الرومانية. حينما انتقلت من الأرض إلى الحوائط والأسقف والقباب واستخدم في تنفيذها في المرحلتين الحصى والأحجار الملونة والخامات المصنعة، إلا أن فسيفساء المخروطات التي سبقت ذلك زمنيا تختلف من حيث السياق المعماري في كونها استخدمت في زخرفة وتجميل الحوائط والأعمدة وليس الأرضيات، ومن ناحية التقنية استخدمت خامة مصنعة هي المخروطات الفخارية الملونة التي هي ابتكار سومري غير مسبوق يعود للنصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد تقريبا.
ويبيّن أن القطعة الواحدة من مكونات هذه الفسيفساء على هيئة مخروطة من الفخار طوله يتراوح ما بين 4 إلى 15 سم يغرس في ملاط الطين الذي يغطي الجدران أو الأعمدة أو أنصاف الأعمدة كالتي عثر عليها في “ورقا” في ما بين النهرين على واجهة مبنى طوله حوالي 25 مترا غطي بالكامل بالأقماع الفخارية ليبقى ظاهرا منها فقط قواعدها الملونة بألوان محدودة. الأسود والبني والأبيض في درجات متنوعة بتأثير من ظروف حريق هذه الطينات أو مكوناتها أو غير ذلك من عوامل يعرفها الخزافون.
ويلفت إلى أنه بغرس هذه المخروطات في أنساق هندسية بسيطة أمكن للسومريين الحصول على أشكال زخرفية قريبة الشبه من زخارف الحصير، فالحائط الذي عثر عليه في “ورقا” هو مجموعة متتالية من أنصاف الأعمدة كل واحد منها مزخرف بوحدة هندسية زخرفية مختلفة. ومن المعتقد أن هذه المعالجة التقنية كانت تضفي قيمة الجمالية على هذه الأعمدة الضخمة إلى جانب أنها تضيف لهذه الأعمدة المشيدة بالطين نوعا من التقوية والمتانة الضرورية لهذه المادة الضعيفة.
أما فسيفساء القرميد فاللون فيها نتيجة اختلاف درجات حريق وحدات القرميد، بمعنى أنه لا وجود لطبقة لونية مضافة على سطح القرميد ليكتسب لونا معينا بل يقتصر اللون الطبيعي الأحمر الذي يميل إلى البني الفاتح نتيجة الحريق عند درجة حرارة معينة (حوالي 900 درجة مئوية)، ولكن عندما يتجاوز الحريق هذه الدرجة يميل اللون إلى السواد ويحدث بعض التغيير في شكل القرميد وخواصه والغالب أن بداية هذه التقنية كانت تنظيفا جماليا لبعض العيوب الناتجة عن عملية الحريق في تشكيلة للأسطح ذات الأهمية أو تكسبه بعض الأعمدة بترتيب القرميد الملون بهذين اللونين ترتيبا هندسيا زخرفيا.
ويتابع سالم أن إضافة طبقة زجاجية ملونة على سطح القرميد أو البلاطة المحروقة لتجعلها أكثر جمالا من حيث قيمتها اللونية وسطحها البراق ومقاومتها للعوامل الجوية. وهذه التقنية عرفت في الحضارة الإسلامية في المشرق في وسط آسيا، كما عرفت في المغرب في الأندلس، ومازالت تقاليد العمل بها شائعة ولها انتشارها وشهرتها الكبيرة في المغرب حيث هناك باسم دارج هو “الزليج” وتقوم هذه التقنية ـ الفسيفساء الخزفية ـ على بناء الشكل الزخرفي الهندسي الطابع ـ غالبا ـ بقطع صغيرة من الخزف الملون على هيئة العناصر، التي تتكون منها وحدات الرقش الإسلامي (الأرابيسك) من أشكال نجمية أو دوائر أو مثلثات وغير ذلك من أشكال، وتثبت هذه الأشكال في داخل إطار خشبي يملأ بالملاط، وبعد تمام جفافه يثبت في موقعه النهائي على الحوائط أو الأعمدة مثل تثبيت ألواح الرخام.
وعن البلاطات الخزفية وتربيعات القاشاني، فيشير إلى أن اسمها مستمد من مدينة “قاشان” الإيرانية التي تفوقت على غيرها في صناعة هذه التربيعات الخزفية. ومن الواضح أن تربيعات القاشاني كانت تطويرا تقنيا للفسيفساء الخزفية. ونظرا للجهد والوقت الذي يستغرقه تنفيذ أعمال الفسيفساء الخزفية اقتضى الأمر أن يتم تصوير الموضوع دفعة واحدة على هذه التربيعات أو البلاطات ثم تحرق حريق الخزف، ثم يعاد تجميعها وتثبيتها على الحوائط وفق ترتيب وترقيم معين. وفي مصر نماذج جميلة من هذه التقنية منها الجامع الأزرق بالقاهرة ومسجد قوص في قنا والعديد من البيوت التي تعود لفترة حكم الأتراك في مصر.
ويتناول سالم تقنيات فسيفساء الكوزماتي الرومانية والتي عرفها الفن الإسلامي في الأندلس، والتطعيم وهو نوع من التقنيات القريبة من الفسيفساء التي يستخدم في تنفيذها الأحجار الكريمة أو النصف كريمة أو الزجاج أو بعض أنواع مميزة من الرخام. وتقنية الكوميسو التي تستخدم الأحجار الصلبة ذات القيمة الجمالية العالية من حيث ألوانها وصلابتها وإمكانية تشكيلها وصقلها.. إلخ. وتقنية الفسيفساء السكندرية وهي تكسية الأرضيات بأحجار السربنتين الأخضر وأحجار البورفيري الأحمر التي كانت تستورد من مصر وذلك بأشكال هندسية متعددة.