الفساد ينخر منظومة الدعم المصرية

الحكومة المصرية تحركت ولو متأخرة لإصلاح مكامن الخلل في منظومة الدعم التي ينخرها الفساد وسوء الحوكمة. وأصدرت القاهرة قانونا جديدا أكثر صرامة وتحوطا في مواجهة التلاعب بالأموال العامة المقدمة للدعم.
القاهرة - أظهر التصعيد الحكومي في مصر ضد ما يسمى بـ”مافيا وشبكات التزوير داخل منظومة الدعم” وجود توجه قوي داخل السلطة لتصويب مسار المساعدات التي تقدم للمواطنين، لكن ثمة شواهد أكدت أن اليقظة الحكومية تأخرت كثيرا، وقاد التباطؤ في المواجهة بحسم إلى انحراف واضح داخل المنظومة برمتها.
وأسقطت الأجهزة الرقابية شبكة متكاملة داخل وزارة التضامن الاجتماعي، وهي الجهة المسؤولة عن صرف المساعدات الرسمية للفقراء، ما أحدث صدمة من حجم الفساد الذي طال منظومة الدعم، وأصبح من السهل خداع مؤسسات حكومية بمستندات مزيفة والحصول على مساعدات بمبالغ مالية ضخمة.
وأعلنت هيئة الرقابة الإدارية، أعلى جهاز رقابي في مصر، عن ضبط مسؤولين كبار بمكاتب وزارة التضامن الاجتماعي في محافظات مختلفة، لارتكاب جرائم التزوير وتسهيل الاستيلاء على المال العام والرشوة باستغلال الإعفاءات والامتيازات المقررة للمعاقين، واستيراد سيارات خاصة لغير المستحقين.
وتبيّن من القضية أن بعض المواطنين صدرت لهم بطاقات الخدمات المتكاملة المخصصة للبسطاء من ذوي الهمم ضمن منظومة الدعم بأوراق مزيفة، ودون أحقيتهم في ذلك تربحوا بعوائد مالية كبيرة، إضافة إلى المتاجرة في بطاقات الدعم وإدخال أفراد إلى شبكة المساعدات بالاحتيال على القانون.
واستثمرت دوائر حكومية وبرلمانية الواقعة للدفاع عن الشروط الصارمة التي تم إدراجها في القانون الجديد الذي تم إقراره داخل مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) قبل أيام، للإيحاء بأن الحكومة كانت على حق عندما تدخلت بتشريع صارم يعيد منظومة الدعم النقدي للبسطاء إلى مسارها الصحيح.
وتصطدم الحكومة المصرية في حربها على الفساد بجملة من التعقيدات الإدارية، فهناك شبكات ضخمة تشكّلت من مواطنين وموظفين ومسؤولين كبار حولهم شبهات بأنهم سهلوا دخول أعداد كبيرة من المواطنين منظومة الدعم بالتزوير.
ويظهر ذلك في وجود أفراد يتحصلون على مقابل نقدي شهريا من الحكومة بدعوى أنهم بسطاء، بعضهم يمتلك وحدة سكنية ومحال تجارية واستفادوا من الترهل الإداري، وتم إدراج أسمائهم كفقراء بطرق ملتوية دون وجود آلية لاكتشاف ذلك.
وأصبح هناك نص قانوني لأول مرة مرتبط بتنقيح سلسلة الدعم، وعقوبات تصل إلى الحبس لمن صرف مساعدات دعم نقدي بلا وجه حق نتيجة بيانات مغلوطة أو تلاعب في أوراق رسمية، وهؤلاء ملزمون برد كل الأموال التي تحصلوا عليها بالمخالفة.
وأثارت شروط الحكومة لاستمرار المساعدات المالية الشهرية مخاوف لدى البعض، لأن ثمة نصوصا في القانون مطاطة وتمهد الطريق لخفض فاتورة الدعم النقدي مع أن ظاهرها يستهدف التوسع في حماية الفقراء ووقف السرقات.
وتضمن قانون الضمان الاجتماعي نصا صريحا يعطي الحق لكل مواطن مصري يعيش تحت خط الفقر ولا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي في الحصول على دعم نقدي متى توافرت حالة من حالات الاستحقاق التي تحددها الحكومة، على رأسها ثبوت الفقر ودرجته وعدم وجود مصادر دخل.
ويحق للحكومة وقف صرف الدعم النقدي وفق مراجعات دورية لظروف المستحقين، حيث تضمن القانون مادة خاصة بمراجعة حالات الاستحقاق كل فترة لدراسة استمرار المساعدة المالية أو تعديلها وفقا لما يتناسب مع حالة المستفيد، وإذا تغيرت ظروف الفقير يصدر قرار بخفض قيمة الدعم أو إيقافه.
وعلى الرغم من تصاعد الجدل السياسي حول ملف الدعم لم تتحرك الحكومة لتوضيح الحقائق، مع أن الصمت المبالغ فيه منح خصوم السلطة فرصة لتأليب الرأي العام بدعوى أن هناك خططا يجري إعدادها خلف الكواليس بإعادة النظر في كل ما يرتبط بالمساعدات الحكومية للفئات الأكثر احتياجا.
وتظل أزمة بعض من يتحصلون على الدعم النقدي أنهم تعودوا على الاتكال والاعتماد على الحكومة لتسيير شؤون حياتهم، ما دفع البرلمان إلى منح وزارة التضامن أحقيقة وقف صرف الدعم النقدي للأفراد وأرباب الأسر المستفيدة، إذا كانوا قادرين على العمل أو رفضوا فرص التوظيف وكسب العيش التي تتاح لهم.
64
مليون مواطن مصري يستفيدون من الدعم التمويني على السلع الأساسية بالتوازي مع تقديم دعم نقدي لخمسة ملايين أسرة أخرى
وحملت الموافقة البرلمانية على قانون الضمان الاجتماعي بتلك الصيغة وجود رغبة لدى الحكومة في كسر الحق المجتمعي المرتبط بالدعم النقدي لترفع عن نفسها هذا العبء، انطلاقا من أن الأموال المقدمة للبسطاء إرث مطلوب إعادة النظر فيه.
وتعتقد دوائر رسمية أن الدولة محقة في حوكمة منظومة الدعم التي يساء استغلالها باعتياد الملايين من الأسر انتظار الدولة لتنفق عليها، وهناك ضرورة أمام الظروف الاقتصادية الصعبة للنظر في تلك الفاتورة وتحديد مستحقيها بشروط صارمة بعيدا عن عبثية الصرف وشبكات التزوير.
وإذا كانت وجهة نظرة الحكومة صحيحة لترشيد الدعم ليصل إلى مستحقيه بالفعل، لكن الظرف السياسي وارتفاع منسوب القلق الشعبي لا يحتملان المزيد من القرارات الخشنة وسط منغصات تخيم على الملايين من الناس لعدم القدرة على سد احتياجاتهم الأساسية.
ويخشى معارضون أن يكون التحرك نحو ضبط مسار المنظومة بإجراءات رقابية وأخرى تشريعية مقدمة للانسحاب التدريجي من الدعم واقتصاره على فئات محددة، بدعوى أن الكثيرين يسيئون استغلاله، مع أن وقف السرقات لا يبيح للحكومة أو يعطيها الحق في تقليص الدعم في ظل وضع معيشي مترد.
وقال كريم العمدة الباحث المتخصص في الاقتصاد السياسي لـ”العرب” إن الحكومة المصرية لديها مشكلة في إدارة ملف العلاقة مع البسطاء، لكنها ليست بالسذاجة التي تجعلها تدخل في مواجهة غير محسوبة مع الملايين من الأسر.
وأضاف أن القانون الجديد محاولة للقضاء على التجاوزات الخطيرة الحاصلة في ملف الدعم، فهناك كثيرون يستفيدون ماليا بلا وجه حق، مع أن إقصاء هؤلاء من المنظومة وإدخال آخرين أكثر حاجة إلى المساعدة، يزيد المكاسب السياسية للحكومة، ويوسع قاعدة الاستفادة المجتمعية بما يهدئ غضب الناس.
وتوجد أزمة لدى جهات رسمية في مصر بشأن طريقة التعاطي مع الشارع حول تصورات الدولة تجاه حقوق البسطاء، إذ لا يتم إشراك الناس في الخطط المنتظر تطبيقها بما يقطع الطريق على التيارات المناوئة للسلطة في تصوير الأمر على أن الحكومة تتآمر على الفقراء وتتلاعب بهم بطرق ملتوية.
وأكد كريم العمدة لـ”العرب” أن حوكمة منظومة الدعم لتذهب المساعدات إلى مستحقيها ضرورة اقتصادية واجتماعية تأخرت كثيرا، كما تتسق مع توصيات صندوق النقد الدولي، بحيث يتم تقليص العجز في الموازنة مع استمرارية مظلة الحماية الاجتماعية في حدود تسمح بعدم الإضرار بالفئات الأكثر احتياجا.
ويستفيد قرابة 64 مليون مواطن مصري من الدعم التمويني على السلع الأساسية، وهذا رقم كبير إذا قورن بالظروف الاقتصادية التي تعيشها الدولة، حيث تخصص لذلك مبالغ مالية ضخمة في موازنة كل عام، بالتوازي مع تقديم دعم نقدي لخمسة ملايين أسرة أخرى ضمن برنامج “تكافل وكرامة”.

وبدا واضحا أن الحكومة لم تعد راغبة في الاستمرار كمؤسسة خيرية تغدق بالعطايا على البسطاء بدعم سلعي أو نقدي، وهي إشكالية تطرق إليها الرئيس عبدالفتاح السيسي، مؤكدا أن المساعدات عوّدت البعض عليها والظرف الاقتصادي لم يعد يسمح بذلك.
يظل التحدي الحقيقي أمام النظام أنه ورث تركة ثقيلة من حكومات سابقة عوّلت على الدعم لتحصين نفسها من غضب البسطاء، لكن الظرف السياسي الراهن لا يسمح بالتحرر الكلي من هذا القيد الجبري باهظ التكلفة، بقدر ما يستدعي الترشيد في حدود يقبلها الشارع ولا تثير الفقراء ضد السلطة.
وجاء الدعم النقدي للبسطاء كمبادرة من الرئيس السيسي لحمايتهم من تبعات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأه مع وصوله إلى الحكم، وأمام تأزم الظروف المالية للدولة أصبحت عاجزة عن الاستمرار في منح الملايين من الأسر مبالغ شهرية بلا إعادة للنظر في مشروعية ذلك من عدمه.
وبات ترشيد فاتورة الإنفاق الحكومي على الدعم ضرورة، بعيدا عن كون ذلك مبادرة من النظام أو وفق روشتة صندوق النقد، لكن المعضلة في تحول المساعدات النقدية للبسطاء إلى حق يمثل الاقتراب منه تجاوزا للخط الأحمر مع تدهور الأوضاع المعيشية.
ومهما كانت الحكومة محقة في ترشيد الدعم، فهي تقرر ذلك بالقليل من الحنكة وبلا توضيح الصورة كاملة، ما تترتب عليه عواقب سياسية في علاقتها بالبسطاء، لأنها اختارت التوقيت الخطأ في التطبيق، ويقود إلى نسف مكتسبات حققها النظام بهذا الملف.
ونجح الرئيس السيسي في تكوين قاعدة شعبية عند فئة مجتمعية تتشكل من البسطاء يصل عددهم إلى نحو 60 مليون مواطن، ويوجه إليهم خطابات استثنائية، ويصر على حمايتهم عبر مساعدات، وأصبح في نظرهم من تدخل لإنقاذهم من العوز.
وإذا أسقطت الحكومة الدعم النقدي عن بعض المستفيدين لأنهم لم يلتزموا بالشروط التي تم تحديدها في القانون، فالأزمة ستكون مركبة، وتلك الخطوة ستجلب تحديات لها آثار سياسية معقدة، ما يتطلب خطابا يفند نصوص القانون، ويشجع الفقراء على دعمه بدلا من الغضب منه.