الفتوى تنوب إعمال العقل في تسيير الحياة الاجتماعية في مصر

مؤسسات دينية تُثبت حضورها بالفتاوى والنتيجة أسلمة العلاقات الاجتماعية.
الثلاثاء 2021/12/21
في انتظار الحصول على فتوى

يتجه نحو أربعة آلاف شخص يوميا إلى دار الإفتاء المصرية للبحث عن غطاء ديني يحلل أو يحرم مسائل حياتية كثيرة من بينها الأمور الصغيرة والحميمية وحتى التافهة منها، وفيما ترى المؤسسة الدينية أنها ناجحة في التواصل مع المجتمع الإسلامي، يحذّر معارضون من أن الإنسان بات يعيش بفتاوى عصور خلت وأن على  المجتمع أن يقتنع بأن الدين أوصى بإعمال العقل ولا التسليم بالاعتماد على فتاوى الشيوخ في كل تفاصيل الحياة.

القاهرة - ظل حسام مجدي، وهو معلم مصري ملتزم دينيا، يُعارض فكرة الإجبار على تلقي لقاح كورونا للسماح له بدخول المدرسة التي يعمل بها بعد قرار الحكومة بعدم السماح لمن لم يتناولوا اللقاح بدخول المؤسسات الرسمية، ليس بسبب أعراض اللقاح التي قد تصيبه بالأذى، بل لأنه سمع قبل أشهر أن بعض لقاحات كورونا تعتمد في تكوينها على لحم الخنزير.

وأمام التضييق الممارس عليه من جانب إدارة المدرسة لجأ إلى دار الإفتاء للحصول على فتوى رسمية تفيد بأن تلقيه لقاح كورونا مهما كانت مكوناته ليس حراما، وبعدها تقدم لموقع وزارة الصحة ليحصل على اللقاح وصار يمتلك صكا لا يجعله عاصيا.

وقال في تصريح لـ”العرب” إنه تمسك بالحصول على فتوى دينية ليرفع الغضب الإلهي عنه، وتتحمل المؤسسة الدينية وحدها مسؤولية موافقته على تلقي اللقاح، ولا يُنكر أنه يفعل نفس التصرف في تسيير شؤون حياته الأسرية ويحرص على وجود فتوى تبيح له أو تمنعه عن فعل شيء ما.

ورث المعلم هذا الفكر من والده الذي لا يخطو خطوة واحدة قبل سؤال رجل دين عن حرمتها أو إباحتها، حتى أصبح من مدمني التعامل مع الفتاوى باعتبارها الدستور الذي يسير عليه ولا يحيد عنه، ولا يرى في ذلك أزمة لأنه على قناعة بما وصله من الحديث النبوي، “العلماء ورثة الأنبياء”.

تفسر هذه الحالة أسباب لجوء أربعة آلاف مواطن يوميا إلى دار الإفتاء المصرية، لطلب الحصول على فتاوى خاصة بحياتهم ومصائرهم، وفق كلام خالد عمران أمين عام الدار الذي وصف التدين المصري بأنه نموذج للعالم، وأن ذلك يعكس “حجم الإيمان والثقة في المؤسسة الدينية”.

صدمة مجتمعية

سعيد صادق: ارتفاع إقبال المجتمع على الفتاوى يقود إلى مخاطر كثيرة

مع أن سكان مصر يصل عددهم إلى نحو 110 ملايين نسمة، إلا أن كلام أمين دار الإفتاء أحدث صدمة لدى الكثيرين، فما الذي يدفع أربعة آلاف مواطن يوميا للحصول على فتوى تخص كل شيء يرتبط بحياتهم دون إدراك لكون الدين دعا أيضا إلى إعمال العقل واستفتاء القلب والتفكير في القيام بالأعمال التي تناسب ظروف الناس وأحوالهم الشخصية.

وطرح الأمر ذاته تساؤلات بالجملة، فهل التهافت على الفتوى مشكلة مجتمعية، أم أن المؤسسة الدينية تذهب إلى الناس وتحاول أن تجعل الفتوى هي المهيمنة عليهم؟ وكيف يمكن الوصول إلى مدنية الدولة وجعل الدين مفردة في حياة المواطنين طالما أن تأثير الفتوى عليهم صار أكبر من أي وقت مضى؟

وتكمن أزمة دار الإفتاء في مصر أو أيّ مؤسسة دينية أخرى في أنها لا تتوانى عن التجاوب مع طالبي الفتوى مهما كانت طبيعة استفساراتهم، أسرية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية وطبية، ويصعب أن ترفض الرد لأي سبب، ودائما ما تكون الفتوى جاهزة، وتصدر بشكل علني ولا يتم الردّ على أصحابها بشكل خفيّ.

وصارت الفتاوى تتدخل في أدق خصوصيات العلاقات الاجتماعية حتى بين الرجل وزوجته، فهناك من يُحرّم مشاركة المرأة براتبها لمساعدة زوجها على متطلبات الأسرة، وآخر يحرم عليها القيام بعمليات التجميل، وثالث يبيح زواج الرجل طالما أنه فقد الرغبة في شريكته، ورابع يتحدث عن تحريم النوم متأخرا، وهكذا.

ويصعب فصل ذلك عن الاستفسارات الغريبة التي يطرحها الناس على جهات الفتوى. فكل من يتعرض لمشكلة من أيّ نوع يُبادر بطلب رأي الدين، ولو كان سؤالا صعبا ولا يوجد نص ديني يبيحه أو يحرمه، لكن رجال الدين لا يرفضون الرد ويخترعون نصوصا وتفسيرات خشية أن يتم وصمهم بالجهلاء.

وانعكس كل ذلك على علاقة الناس بجهات الفتوى، فصارت أقرب إلى الإدمان، فالمواطن العادي أصبح يتعامل مع من يُفتي باعتباره الملاذ الآمن الذي يحتمي في رأيه ويرشده إلى الصواب، والمفتي يرى في المستفتي أنه الوحيد القادر على أن يجعله ذا قوة ونفوذ وحضور مجتمعي طوال الوقت.

تهافت الجهل

محمد أبوحامد: الهوس بالرأي الديني يعكس تغلغل جهات الفتوى داخل المجتمع

قال سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية بالقاهرة، إن تهافت الناس على طلب الفتوى يعكس تنامي الجهل وسط المجتمع، ومن الخطورة أن تتباهى المؤسسة الدينية بذلك لمجرد أن تقديس الناس لها نابع من ثقتهم فيها، لأن هذا الأمر يبرهن على تغييب العقول وارتفاع منسوب التشدد الديني.

وأوضح لـ”العرب” أن تجاوب جهات الفتوى مع أسئلة لا يمكن وصفها إلا بالسخيفة، يشير إلى وجود أزمة حقيقية بين الطرفين، فلا يمكن في أي مجتمع إسلامي أن تصل علاقة الناس بالمؤسسة الدينية حدّ القدسية التي تجعلهم يحتمون بها لتمرير قراراتهم الشخصية لتصبح الفتوى أقوى من القانون.

ولفت إلى أن ارتفاع منسوب الجرعة الدينية في المجتمع يقود إلى مخاطر كثيرة، على رأسها أن المتشددين يجدون العديد من المنافذ التي يصلون منها إلى الناس. فهم قد اعتادوا بناء شعبيتهم من خلال الفتاوى، ولأن المؤسسات الرسمية تتكالب لاستقطاب الناس إليها، فإن المتطرفين ينافسونها في نفس الأمر، وهذه كارثة.

وتتهم الكثير من الأصوات التي ترفض إقحام الدين في التعاملات الشخصية والحياتية عموما، المؤسسات الدينية بأنها زرعت في عقول وأذهان الناس منذ الصغر أن الفتوى هي السبيل الأمثل لنمط حياة بعيد عن الدخول في دوامة التحريم، حتى صاروا يستطلعون رأي رجال الدين قبل أي خطوة، في الطعام والشراب، والعلاقات الزوجية شديدة الخصوصية، وأصبحت هناك فتاوى مخصصة لفراش الزوجية.

ويبدو أن هذه المؤسسات مصممة على تكوين قواعد شعبية من جمهورها المستفتي، ليكون حصانة لها أمام أي محاولة مستقبلية لتقليم أظافرها أو قصقصة أجنحتها أو تقويض نفوذها المجتمعي، وهذا ما سعت إليه حكومات كثيرة في مصر وأخفقت خشية رد فعل الناس، وبالتالي فإن الفتوى هي سلاح المواجهة ضد التهميش.

ويرى البعض أنه لا مانع من طلب الفتوى في أمور مصيرية، مثل الطلاق وغيره، لكن ذلك لا يبرر تحول رجال الدين إلى مرشدين للناس، يزرعون في عقول المجتمع أن عدم مباركة الشيوخ لأي خطوة، فهي محرمة، لأن ذلك يقود إلى جعل الناس أسرى للفتوى، ما يكرس اتساع الهوة بين الأجيال الرافضة والمؤيدة لهذا.

كما أن خطورة التهافت على الفتاوى ليست في ارتفاع معدلها فقط، بل في انقسام آراء المفتين أنفسهم حول قضية واحدة، ما يشكل أزمة مجتمعية، فمن يطلب فتوى بعينها ولا يجد رأيا قاطعا لها يذهب إلى شيخ آخر للحصول على الرأي النهائي.

والمعضلة الأخرى أن رجل الدين الذي يُفتي على طول الخط قد يُصدر الرأي الديني في نفس توقيت طلب الفتوى، وهذا ما يظهر خلال تقنية البث المباشر، سواء على الصفحة الرسمية لدار الإفتاء بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أو حتى البرامج التلفزيونية التي تقدم “فتاوى على الهواء” لجمهورها.

ردود معلبة

Thumbnail

ترتبط الأزمة هنا بأن رجل الدين في أي حال يرد على المستفتي دون أن يقرأ أكثر من تفسير ديني للواقعة المطلوب حسم الرأي حولها، أيّ أنه يُفتي وفق قناعاته الشخصية، فالذي يرفض في المطلق أن تخرج الزوجة من بيتها من الطبيعي أن يُحرّم عمل المرأة، أو الاختلاط بالرجال في أماكن العمل.

والمتابع لطريقة تقديم الفتاوى في تقنيات البث المباشر يكتشف أن ردود المفتين تكون سريعة ودون تفكير أو فحص أو بحث، فلا يقول للسائل سيبحث في المشكلة أو القضية ويرد لاحقا، ما يثير تساؤلات حول أسباب الردود القاطعة التي تكون في قضايا معقدة.

وضاعفت هذه المسألة من تهافت الناس على طلب الفتوى، فأصبحت العملية سهلة وبسيطة، وكل ما في الأمر يكتب المستفتي تعليقا على صفحة دار الإفتاء، أو يُجري مكالمة هاتفية مع البرنامج التلفزيوني لحسم موقفه من أي قرار مستقبلي أو عائلي، أو غيره ليرتاح قلبه، أو يتراجع عن موقفه، المهم أن يتحرّك وفق الشرع.

ورأى محمد أبوحامد البرلماني السابق والباحث في شؤون الأديان أن الهوس المجتمعي بالرأي الديني يعكس تغلغل جهات الفتوى داخل المجتمع، فالمشكلة مسؤول عنها الطرفان معا، لكن الأزمة أن يكون مصدر الفتوى كتب التراث، ما يعني أن الناس يسيّرون حياتهم وفق قناعات تجاوزها الزمن.

وأكد لـ”العرب”، أنه ليس مطلوبا من المؤسسة الدينية إقحام نفسها في كل الأمور الاجتماعية حتى تثبت وجودها وأنها ذات نفوذ ولا يستطيع الناس الاستغناء عنها، بل دورها في توعية المجتمع بتسيير حياته وفق ظروفه، فهناك ميراث فقهي يقول “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، لماذا يكون رجل الدين أعلم بكل شيء.

المواطن العادي أصبح يتعامل مع من يُفتي باعتباره الملاذ الآمن الذي يحتمي في رأيه ويرشده إلى الصواب

يخشى متابعون أن يكون سعي المؤسسة الدينية لاستسهال الفتوى محاولة للالتفاف على ملف تجديد الخطاب الديني بدعوى أنها تقوم بذلك من خلال توعية الناس بالدين عبر تصحيح مفاهيم وموروثات الفتاوى، وهذه كارثة، لأن أغلب الآراء الدينية مأخوذة من التراث المتهم بتجميد الخطاب.

ويشير تباهي دار الإفتاء بحجم الإقبال عليها للحصول على الفتوى إلى محاولتها إثبات أن شعبيتها ما زالت قوية بعد الاستطلاع الذي أجرته العام الماضي وأظهر أن 70 في المئة من طالبي الفتوى يحصلون عليها من منابر ومنصات أخرى، ما أصاب رجالها بالصدمة، ووضعها في موقف حرج، وشعر قادتها بضرورة استعادة الجمهور مرة أخرى بشتى السبل.

وذكر سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع لـ”العرب” أنه على الحكومة أن تقتنع بإخفاقها في رفع الوعي المجتمعي طالما أن المؤسسة الدينية ترمم شعبيتها من بوابة اختراق عقول الناس بالفتاوى، لأن التعاطي بقوة مع الجمهور بآراء دينية في كل المجالات يكرس رجعية الفكر ويقود إلى تديين المجتمع ضد أي محاولات عصرنته.

ومهما كانت نوايا المؤسسة الدينية سوية فهي مطالبة بتشريح ظاهرة الإقبال غير المسبوق على الفتوى ودراسة تبعاتها المستقبلية، لأن ذلك يكرس الصراع بين الأجيال، فكثير من المراهقين والشباب لديهم حالة من العداء ضد تحكم رجل الدين في حياتهم، مع أن أرباب العائلات ما زالوا مدمنين على الفتاوى.

يؤسس ذلك لمواجهة فكرية شرسة بين الراغبين في الانفتاح والتحرر بعيدا عن أي قيود أو موانع شرعية، وبين الشرائح المجتمعية التي تقدس الالتزام بالرؤى الدينية، ولا يمكن التحجج بأن الفتوى يجب أن تكون الفيصل عندما يعيش الناس في حيرة، أو أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.

إن اقتناع جهات الفتوى بأن مواجهة غياب الوعي يكون بطرح المزيد من الرؤى الدينية يبرهن على حتمية وجود وقفة من دوائر صناعة القرار السياسي، لأن الاستمرار بنفس الوتيرة يشوه الشخصية بنشر الرجعية وتغييب الوعي وزيادة منسوب التشدد، وتقييد كل محاولة للتحرر وإعمال العقل، وإن لم تكن هناك شجاعة لفرملة الفتاوى، فعلى الأقل يكون لها سقف لا تتجاوزه أي مؤسسة.

6