الفتاوى والمساجد بمترو القاهرة.. ألا في الفتنة سقطوا
الأربعاء الماضي الـ19 من يوليو 2017، نشرت جريدة “العرب” مقالي “الفتاوى.. تصريف فائض الضرورة الوهمية تحت الأرض”، وأعلن مترو الأنفاق في القاهرة رسميا، في اليوم نفسه بالمصادفة، عن بدء عمل لجنة الإفتاء لرواد المترو الأنفاق، ضمن بروتوكول وقع بين مجمع البحوث الإسلامية وشركة المترو، ويستمر عمل اللجنة يوميا من التاسعة صباحا حتى الثامنة مساء، على ورديتين.
البيان الرسمي المترهل ذكر سببا لهذا العبث قائلا إن “هذه التجربة تلبية لاحتياجات الناس المعرفية وحاجاتهم إلى الإجابة على أسئلتهم المتنوعة والمرتبطة بواقع حياتهم، فضلا عن مواجهة الفتاوى المضللة التي تحاول بعض التيارات المتطرفة الترويج لها بأشكال ووسائل مختلفة، ويعمل مجمع البحوث على بيان معالم التيسير في الإسلام ومراعاته لواقع الناس ورفع الحرج عنهم”.
هذا تطور طبيعي للصمت على احتيال بالسطو على الفضاء العمومي، واقتطاع مساحات من محطات المترو لإنشاء مساجد. في محطة جمال عبدالناصر مسجد له بابان، والقبلة في مواجهة جدارية لعبدالناصر، كأن المصلين له يسجدون، أما جداريات أحمد عرابي وأنور السادات وسعد زغلول فبعيدة عن اتجاه القبلة.
ويحار غير المسلم والمسلم العاقل أيضا في استنبات هذه المساجد؛ فموظفو المترو يستطيعون الصلاة في محال عملهم، وجعلت لهم ولغيرهم الأرض مسجدا وطهورا، والركاب أينما يولوا فثمّ وجه الله، سيجدون مساجد لا يخلو منها ميدان أو شارع، قبل الهبوط إلى المترو إذ ينتظرون بضع دقائق للقفز إلى القطار، ثم يخرجون من محطات الوصول فيرون مسجدا أو زاوية في أقرب شارع أو ميدان.
ولم يكن ينقصنا المزيد من تنطع ديني واجتماعي لا يستر عورة انحطاط في الذوق، وانهيار أخلاقي تفضحه ظاهرة التحرش. صارت المساجد بمحطات المترو حقا مكتسبا، “دار إسلام” محررة، ينطلق منها الأذان والصلوات عبر مكبّرات صوت تغطي فضاء المحطات.
أطْمع الصمت على هذا التمييز الديني رجال الدين في توصيل خدمة الفتوى إلى الزبائن، وتشغيل جيش من الأزهريين، ولم يكن الإعلان عن “أكشاك الفتوى” في 19 يوليو 2017 مفاجئا، إذ بدأت المقدمات قبل شهرين (أول رمضان، 17 مايو)، ببث خطب في الإذاعة الداخلية للمترو، تنفيذا لاتفاق شركة المترو ومجمع البحوث الإسلامية. وقال هاني شمس الدين مدير العلاقات العامة بالمجمع بعد أن ألقى خطبة مكتوبة “أبناء مصر يستحقون الكثير. نحن نريد أن نسير مع القيادة السياسية في بوتقة واحدة…
سيكون هناك واعظ من الأزهر في كل مسجد بمحطات المترو، فضلا عن عالم.. بالإذاعة الداخلية” (مجلة المصور 21 مايو). ولم يشغله خلوّ محطات المترو مما “ينفع الناس” كالحمامات العمومية الضرورية للغاية لكبار السن ومرضى السكر والمثانة، وهي أولى بالإنشاء من مساجد يتحدث عنها كحقيقة شرعية لا اعتداء طائفي على مجال عام يشترك في امتلاكه كافة “المواطنين”، إلا إذا كانت المحطات أعلنت إسلامها بليل.
لا نملك الآن شيئا نتشرف بتقديمه إلى العالم، في السياسة نحن أصدق تمثيل لبقايا الدكتاتوريات، وفي الدين نصدّر التدعوش رغم زوال الدواعش وربما بسبب هذا الزوال. ولا يبقى لنا إلا شيء من الإبداع الثقافي.
في الأسبوع الماضي وضع بنك إنكلترا صورة الروائية الإنكليزية جين أوستن على فئة 10 جنيهات إسترلينية، تخليدا لذكراها، وأقيم لها تمثال في مدينة باسينغستوك التي عاشت فيها أول 25 عاما من حياتها.
وفي القاهرة حجب أعداء الجمال كارهو الحياة بكشك الفتوى المبتدع جدارية مستلهمة من النحت المصري القديم الفرعوني. فكيف نجمّل صورتنا أمام العالم إذا كان الأصل يتسم بهذا القبح والتمييز الديني؟
لا تنص مادة دستورية أو قانونية على هذا التمييز، ومن حق الملايين من المسيحيين أن تخصص لهم في محطات المترو أماكن تسعف الذين لا يتمكنون من إدراك صلوات الأحد، لبعد الكنائس عن المحطات
لا تنص مادة دستورية أو قانونية على هذا التمييز، ومن حق الملايين من المسيحيين أن تخصص لهم في محطات المترو أماكن تسعف الذين لا يتمكنون من إدراك صلوات الأحد، نظرا لبعد الكنائس عن المحطات حيث لا توجد في كل شارع وميدان كنيسة.
ولا يجرؤ مسيحي أن يتعبد في مكان غير مرخص، وإذا أغراه حسن الظن بالصلاة في بيت مغلق عليه وعلى مجموعة من أصدقائه، فلا يأمنون أن يمطرهم بالحجارة متطرفون انتهوا من سماع خطبة تحرض على “الضالين”، ثم ينتهي الأمر بمجلس عرفي طائفي يقضي بتهجيرهم، في عودة إلى ما قبل عام 1855. ففي ذلك العام بدأ عهد مصري مدني بإلغاء الوالي محمد سعيد للجزية، والسماح لأبناء الأغنياء من المسيحيين بالترقي في الجيش مثل أبناء الأعيان من المسلمين.
لا يفكر في هذه البدعة “الإفتائية” وتنفيذها إلا من يفتقدون إلى الحس السياسي والرشد الديني أيضا؛ فمصر لا تنقصها مساجد ولا فتاوى تطارد المسلم، من خطب أيام الجمعة وطوال شهر رمضان وبرامج في الفضائيات العامة وإذاعة القرآن الكريم والقنوات الدينية المتخصصة. ولا ينقص مصر شقاق ديني بين المسلمين والمسيحيين، لكي يأتي شياطين الإنس بخطة تكفي لإشعال خلافات وفتن مذهبية بين المسلمين.
ولا يدري السائل على أي مذهب ستكون الإجابة؛ فإذا كانت الخطبة التي ألقاها مدير العلاقات العامة بمجمع البحوث الإسلامية، وسيلقيها غيره، مكتوبة، فإن الأسئلة ستفاجئ من يتولون الفتوى في محطات المترو، وهم ليسوا سواء؛ فبعض رجال الدين اقتنع بكروية الأرض، والبعض يحتج بآيتيْ “والأرض وما طحاها” أي بسطها و“الأرض كيف سُطحت” فينفي كرويتها، والبعض أفتى بكفر من يقول إنها كروية.
ومن رجال الـدين من يبيـح فـوائد البنـوك، ومنهم من يحرّمها، وينذر من يتعامل مع البنـوك “بحرب من الله ورسوله”. في عهد المفتي علي جمعة حرمت دار الإفتاء الهجرة السرية، بحجة تعريض النفس للأذى. كلمة حق أريد بها باطل، لإهمال الفتوى سياق الفساد الإداري ونهب لخيـرات البـلاد، فيندفع اليائسون من العدل إلى انتحار جماعي في البحر، هروبا من جحيم مصر.
هذا مشروع مثير للفتن، ويحمل شيئا من العبث، فقد تصدر فتوى بأمر السلطان، وتلغى رسميا من دون وصول إخطار بإلغائها لموظف يواصل الإفتاء حسب التعليمات الصباحية، مثل الإمام الذي ظل يدعو للسلطان العثماني حتى بعد إلغاء الخلافة.
ليس هذا الافتراض طرفة، ففي مساء 29 يونيو 2017 استعان السياسي برجل الدين فذكّرت دار الإفتاء المصريين الغاضبين من رفع الأسعار بأن الصحابة اشتكوا الغـلاء إلى الرسـول فقال “إن غـلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى”. واستخرجت حديثين يفيدان بأن “الله هو المسعّر”، وأثارت الفتوى السخرية فحذفت في اليوم التالي. فماذا سيفعل المفتي المسكين الذي يفوته ما تصدره دار الإفتاء أو تلغيه من فتاوى حسب الأوامر؟
منذ الصغر نحفظ حديث “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه…”. فكيف يجيب المفتي عن حكم الدين فيمن أهدر أعمـار المصريين في انتظـار العدل؟
روائي مصري