الفاسق والنبأ، والمصدر الموثوق

الغبي هو الذي يكرر أخطاءه ولا يعتبر من تجاربه، وهنا تبرز معادلة الكلمة المسؤولة التي تقول الحقيقة من أجل الحقيقة.
الثلاثاء 2025/05/06
نفخ في رماد الهوية دون تقدير للعواقب

برزت في ساعات قليلة أهمية وخطورة ما يحمله لسان الإنسان من قدرة على الدمار والخراب، وأن ما تفعله كلمة بسيطة، يكون بمثل ما تفعله رصاصة المسدس، وبعيدا عن الأبعاد السياسية والأيديولوجية في ما أثاره المؤرخ والباحث محمد الأمين بلغيث، فإن أقل من نصف دقيقة من الكلام، كان كافيا لتفجير احتقان اجتماعي مذهل وصادم.

فماذا لو عاد الزمن لحظات قليلة الى ما قبل نصف الدقيقة؟ أكيد أن الرجل المسجون الآن على ذمة التحقيق، لن يغامر بلسانه وبنفسه مرة أخرى، ولن يجرؤ على ذكر ما قاله سواء كان محقا أو مخطئا فيه، بعد ما يرى كل ذلك الشحن الذي أعطى الانطباع بأن انفجارا وشيكا بصدد الحدوث، ولن يسمح لنفسه بأن يكون سببا فيه.

التواصل غريزة طبيعية لدى المخلوقات، واللسان هو وسيلة لذلك، لكن النتيجة أنه كل ما تم تأطير وتهذيب الوسيلة كلما كانت الرسالة بالغة وسلسة، وكلما أطلق لها العنان كانت الكوارث المتعمدة وغير المتعمدة، ولذلك يتردد في المأثورات الشعبية العربية، بأن “فلان لا يعرف الكلام”، وأننا “نضع أيدينا على قلوبنا إذا تحدث فلان”، لحكم مسبق عليه بأن كلامه سيثير المشاكل والتوترات.

الآن في الجزائر، وخلال هذه الأيام بالذات، باتت الكلمة الموزونة والعاقلة ضرورية أكثر من أي وقت مضى، قياسا بموجة الشحن والتحريض التي تجتاح المجتمع، تحت مسمى الدفاع عن أبعاد الهوية والحضارة واللغة والانتماء، وبدعوى ذلك يخيل للمرء أنه لم يبق إلا طلق الرصاص.

في هذا المناخ الموبوء، تتساوى الكلمة الهدامة واللسان السليط، مع الرصاص الذي تطلقه المسدسات، لتزداد الهوة عمقا والشرخ اتساعا، بين مكونات لم تهضم بعد حتمية العيش المشترك وبالقبول المتبادل، وما عدا ذلك فهو من اختصاص النخب الحقيقية التي بإمكانها تنوير المجتمع وترسم له الصورة الحقيقية بتفاصيلها ومكوناتها.

اللسان وسيلة، والكلام فن لا يتاح للجميع، ومخاطبة المجتمع وصناعة الرأي العام، حرفة لا يتقنها الا المتمكنون من حد معين من العلوم والمعارف، ولذلك كانت صياغة صحيحة لجملة محمد الأمين بلغيث، كافية لتوصيل الرسالة بطلاقة وسلاسة ودون ضجيج، بدل الدمار الذي أحدثه.

أكيد كان يدرك أنه يخوض في مسألة حساسة، وكان عليه انتقاء ألفاظه بعناية فائقة، بدل الانجرار خلف ميولاته السياسية والأيديولوجية، لأن القضية الأمازيغية كانت عرضة وتعرضت لمختلف التوظيفات المريبة، لكن ذلك لا ينفيها البتة، وهذه الحقيقة لا يتوجب أن يغفل عنها هذا الطرف أو ذاك، وهي من صميم الاجتهاد العلمي والبحثي والنقاش الحر، ومهما كانت النتيجة، فإنه لا أحد يملك الحق في تجريد الآخر من جزائريته.

منذ تسعينيات القرن الماضي، كان الفاسق والتبين من النبأ، والمصدر الموثوق، من الأمور المطروحة بقوة في المجتمع الجزائري، فلا زالت أجيال بكاملها تتذكر ما كان يتردد في المساجد والطرقات والساحات العامة، من كلام خطير زج بالبلاد في حرب أهلية أودت بحياة ربع مليون شخص وآلاف المفقودين، وبخطاب يشبه إلى حد ما يتردد الآن عن الهوية والانتماء.

الغبي هو الذي يكرر أخطاءه ولا يعتبر من تجاربه، وهنا تبرز معادلة الكلمة المسؤولة التي تقول الحقيقة من أجل الحقيقة، وما نفخ في رماد الهوية دون تقدير للعواقب، كان يمكن أن يقال في مختلف المفاصل والمكامن، حتى ولو كانت نتائجها وخيمة على صاحبها، لأنه حينها سيكسب إجماع الألسن كلها، خاصة وأن المجتمع في حاجة للسان الصادح بالحق، وليس المثير للفتن والأزمات.

18