الـ"لاند آرت" أعمال عارضة تخلدها الصورة الفوتوغرافية

ظهر الـ”لاند آرت”، أي فن الأرض أو فن الطبيعة أو الفن في الطبيعة، كأغلب حركات الفن المعاصر، في شكل ردّ فعل على الوضع القائم، والمؤسسات المتحفية، ولا سيما طبيعة الفن التجارية والنخبوية، فقد كانت الدوافع الأولى لأنصار هذا الفن التخلص من فن المحامل والمبادئ الكبرى للحداثة، التي نظّر لها الناقد الأميركي كليمنت غرينبرغ (1909-1994) وكانت عاملا مشجعا لبروز التعبيرية التجريدية وتألق مدرسة نيويورك، فراموا ربط الفن بالحياة والكفّ عن إنتاج أعمال لا تُرى إلاّ في المتاحف.
ويشمل الـ”لاند آرت” مجمل الحركات الفنية التي تستعمل الطبيعة كفضاء وعُدة ومساحة تندرج فيها أعمالها، هذه الأعمال تظل في الغالب في الهواء الطلق، معروضة لعناصر الطبيعة، تحت رحمة عوامل التعرية، ما يجعل عمرها قصيرا لأنها عارضة، منذورة للزوال في زمن قد يطول وقد يقصر بحسب المواد المستعملة، والفضاء الطبيعي الذي تنشأ فيه، فلا يبقى منها غير صور وفيديوهات تسجيلا لذكرى عابرة.
ويبرز في هذا الجنس نوعان: أولهما، الأعمال الضخمة التي تحتل مكانا واسعا في المشهد الطبيعي العام على غرار “جيوغليف” ناسكا في بيرو، التي يرجع عهدها إلى ما قبل حضارة الأنكا، وهي عبارة عن نقوش على الأرض لحيوانات وطيور وزواحف تمتد على مسافة كيلومترات.
وهو ما درج عليه أحد رواد هذا الفن، الأميركي روبرت سميثسون (1938-1973) الذي يُعدّ منظّر الـ”لاند آرت” ووجها طليعيا لحركة تضم روبرت مورّيس، ونانسي هولت، ودنّيس أوبّنهايم، ووالتر دي ماريا ومايكل هايزر، فقد كان سميثسون، منذ مطلع ستينات القرن الماضي، أنجز في الغرب الصحراوي الأميركي عمليات ترصيف ونقب وتقعير ضخمة مندمجة مع المنظر العام، أطلق عليها مصطلح “أعمال الأرض”.
وثانيهما، أعمال ذات أحجام عادية أنجزت بمواد مستمدة من الطبيعة كالتراب والحجارة والطين والرمل وأوراق الشجر وأغصانها وحتى الماء والثلج… كما هو الشأن في أعمال أندي غولدورثي، ونيلس أودو، وجان نويل فيسّي وبعض أعمال رتشارد لونغ.
كانت الدوافع الأولى لأنصار الـ"لاند آرت" التخلص من فن المحامل والمبادئ الكبرى للحداثة، حيث راموا ربط الفن بالحياة
وبما أن تلك الأعمال، بنوعيها، عادة ما تنجز في أماكن وعرة، يصعب الوصول إليها، ونقلها أو عرضها في متحف وحتى امتلاكها من طرف هذا الهاوي أو ذاك، فإن السند الفوتوغرافي يغدو ضروريا لتخليدها، حتى بات مكوّنا من مكوّنات العمل الفني، لا غنى للفنانين عنه. وبذلك لم يعد الأثر تمثلا للطبيعة بل أصبح جزءا منها، يتفاعل معها حسب الظروف المناخية والطوارئ الطبيعية، وبما أن حياة منشئه محددة بعمر، فلا بدّ أن يكون للأثر هو أيضا نهاية.
ولكن رغم كل تلك الشعارات التي نادى بها أنصار الـ”لاند آرت”، فإنهم لم يعترضوا على إقامة المعارض سواء في الأروقة أو في المتاحف، بدءا بالمنظّر نفسه، أي روبرت سميثسون، فقد ساهم هو وجماعته في معرض “فن الأرض” الذي نظمه متحف ديكسون وايت بنيويورك عام 1969، مثلما ساهم أحد أتباع مدرسته من بعده، وهو رتشارد لونغ في عرض بعنوان “حلقة البنك الجنوبي” في رواق هايوي بلندن عام 1991، ذلك أن هذا الفن شهد تحولا على مدار نصف القرن الماضي، وانضم في عمومه إلى الفضاء المتحفي والتشكيلات الخاصة، على غرار الفن المعاصر الذي ثار عليه، وإن ظلت الأغلبية وفية للطبيعة، تتفاعل معها، وتسعى إلى أن تكون عنصرا من عناصرها.
وظهرت في أعطافه تفرعات جديدة مثل الفن النباتي والفن في الطبيعة كما يمارسه الفرنسي جان نويل فيسّي، وفن العالم الذي يطرح علاقة الإنسان بمحيطه، والفن الإيكولوجي، حاولت جميعها أن تجعل عملية الخلق أكثر حيوية، متناسقة مع الفضاء الذي تختاره، وتجمّل الطبيعة وفق ما يقتضيه المقام.
والأهم من كل ذلك أن هذا النوع من الفن في متناول الجميع، حتى الأطفال، ولئن وجدت تجمعات للفنانين يلتقون تحت لوائها في مكان يختارونه ليطلق كل واحد في أرجائه العنان لموهبته، مثل جماعة “إينين” AININ، الأحرف الأولى للشبكة العالمية للفنانين في الطبيعة Artists in Nature International Network التي تضم كما يدل عليها اسمها فنانين من كل الأصقاع، يلتقون كل مرة في بلد ما لتبادل الآراء والتجارب وممارسة فنهم، فإن هناك جمعيات محلية تنظم ملتقيات في الهواء الطلق تحت شعار “كلنا فنانو طبيعة” يمارس خلالها المشاركون هواياتهم كما يهوون، في جو مرح يتقاسمون خلاله الأكل والشرب.
وأعمال الـ”لاند آرت” هي قبل كل شيء تجارب حقيقية في صميم الفضاء الواقعي، قد تكون في الهواء الطلق خارج المدينة، وحتى داخلها، تلبية لحاجة داخلية، أو تعبيرا عن المشاكل البيئية الراهنة التي تهدد الطبيعة وتهدد من ورائها الوجود الإنساني نفسه.