الغناء السوري بين رياح الماضي وعصف المستقبل

يميل البعض من العاملين في الوسط الموسيقي والغنائي إلى تقديم الأغاني التراثية لما لها من حضور في وجدان الشعوب، ولحماية التراث الثقافي اللامادي من الاندثار وتمريره إلى الأجيال القادمة والإسهام في تغيير الذائقة الفنية السائرة نحو التدهور. وفي دمشق تحاول فرقة نغم وهي فرقة فنية جديدة تقديم الغناء السوري التقليدي بشكله القديم، وأن ترسم لها في خضم فوضى الغناء الحديث ملمحا غنائيا سوريا قديما متجددا.
وجد أول تدوين موسيقي في التاريخ في مدينة أوغاريت على الساحل السوري، فكما غيرها من الحضارات القديمة لم يغب فن الموسيقى والغناء عن مسرح الحياة في سوريا. وعبر آلاف السنين وجدت مئات الألحان التي روت تفاصيل الحياة في مختلف أوجهها بدءا من الولادة للعمل في الزراعة والحرف والسفر والزواج وصولا إلى الموت.
الكثير من هذه الأغاني ضاع مع مرور الزمن، فلم يبق منه سوى البعض مما احتفظ به فن القد أو الموسيقى الدينية خاصة تلك المخصصة للتراتيل الكنسية.
ولم تعرف سوريا التدوين الموسيقي العلمي الحديث إلا في بواكير القرن العشرين، وما كان قبل ذلك من أغان كان يحفظ من خلال الترديد الشفهي الذي يفقد الأثر الأصلي بعضا من ملامحه الخاصة.
محاولة عصرية

فرقة نغم تحاول أن تقدم نمطا موسيقيا أصيلا وتقليديا، وكان لها حضور متميز في أول ظهور لها
تبدو تجربة الباحث الموسيقي الشهير مصطفى هلال متفردة في توثيق الغناء في سوريا خاصة بمدينة دمشق. فقد استطاع أن يوثق خلال مسيرة حياته التي لم تستمر طويلا آلاف الأغاني والأهازيج، ودونها وسجلها موسيقيا ثم قدمها في برنامجه الشهير “من نشوة الماضي” الذي كان يبث على إذاعة دمشق.
تحقيقا لفكرة حفظ التراث الغنائي السوري وحمايته من التلاشي، اجتمعت إرادة الباحث الموسيقي أحمد بوبس والموسيقي عبدالوهاب عتمة والمطرب دياب سكر على تأسيس فرقة فنية تقدم التراث الغنائي السوري القديم والحديث نسبيا، بشكل يحقق الحضور الفعال لدى جمهور الشباب. وكان لهذه الفرقة الوليدة التي تحاول أن تقدم نمطا موسيقيا أصيلا وتقليديا حضور متميز في أول ظهور لها في شهر أغسطس الماضي.
قدمت فرقة نغم خلال حفلها مجموعة من الأغاني السورية الشعبية لعدد من الملحنين السوريين. وفي الخامس من الشهر الماضي، أثّثت ثاني حفل لها في قصر العظم بقلب المدينة القديمة، قدمت فيه شكل الموشح، عبر العديد من التآليف التي تجاوب معها الناس بشغف.
أحمد بوبس الباحث الموسيقي والمشرف الفني على الفرقة يبين ذلك لـ”العرب” قائلا “هدفنا من تقديم أغان تراثية سورية قديمة هو المحافظة عليها وإحياؤها ونشرها بين الجمهور خاصة لدى جيل الشباب، فالإذاعات الآن نادرا ما تبث هذه الأغاني، لذلك نحاول تقديمها خاصة لجيل الشباب”.
ويتابع “جمهورنا في جزء منه من الشباب الذي سيهتم بهذا النوع الموسيقي ويعمل للبحث عنه. كما نهدف إلى تحفيز جهات أخرى من أجل الاهتمام بهذا التراث والعمل على حمايته، لأنه سيكون بلا أي قيمة لو بقي حبيس التسجيلات والوثائق”.
سوريا لم تعرف التدوين الموسيقي العلمي الحديث إلا في بواكير القرن العشرين، إذ كانت الأغاني تحفظ بالترديد الشفهي
وعن الذهنية التي يعملون بها لتنفيذ أعمالهم ومتابعة ما قدمه الملحنون يقول “برنامجنا مرتبط بالملحنين وليس بالمطربين، فالملحن هو الأصل كونه غير مرتبط بزمان معين، وملحن الأغنية سيكون معروفا مهما امتد الزمن وهو واحد لا يتغير، على خلاف المطرب الذي يمكن أن يتغير من فترة إلى أخرى. مثلا عبدالفتاح سكر وما قدمه من إبداعات كبيرة كذلك سهيل عرفة وآخرون”.
ويرى بوبس أن لغة العصر الحديث بالإيقاعات السريعة والمشهدية البصرية لن تؤثر على عملهم وسوف يبقون على نهج الغناء الكلاسيكي الأصيل .
ويقول في تصريحه لـ”العرب” “أرى أن الإضاءة والمشهد البصري اللذين يقدمان في الغناء الحديث هما للتغطية على تدني مستوى الغناء الذي يقدمونه، فالضوء يخلق حالة من الإبهار تغطي على تدني الحالة الغنائية المقدمة”.
ويوضح “في فرقة نغم لا نهتم بالحالة المشهدية بمقدار ما يهمنا الغناء الذي يقدم والصوت الذي يغني. المشهد البصري المتعارف عليه الآن بعيد عن اهتمامنا، وما كان موجودا في قصر العظم خلال تقديم حفلنا، منسجم مع ما نقدمه من طبيعة الغناء الأصيل. حتى في الجانب الموسيقي نحن لا نقدم التخت الموسيقي الشرقي المؤلف من خمسة عازفين، بل نقدم فرقة موسيقية ولا نعتمد على الحالة التي تعنى بتقديم فرقة موسيقية يقودها مايسترو يقف وظهره للجمهور”.
ويواصل قوله “قائد الفرقة عندنا يكون جالسا مع العازفين وهذا هو التقليد المتعارف عليه عربيا، فالفرقة الماسية في مصر كانت كذلك وفرقة الإذاعة والتلفزيون بقيادة سليم سروة وفرقة الفجر لأمين الخياط. فالفرقة عندما تكون بحجم عشرة عازفين أو حتى الضعف ليست بحاجة إلى أن يقف القائد وظهره للجمهور لكي يقودها فآلة القانون تسمى قانون الفرقة وهي من يقودها ونحن من خلال ذلك نقدم الشكل التقليدي حتى في شكل الفرقة الموسيقية”.
العاطفي والديني

عمل عبدالوهاب عتمة مبكرا في الإذاعة السورية عازفا على آلة القانون وكان لفترة طويلة رئيسا لفرقتها، وهو يقود الدفة الموسيقية لفرقة نغم ويقوم ببعض التوزيع والإعداد لموادها.
يقول عن برمجتهم لما قاموا به في أول حفلين “حضرنا الحفل الأول لملحنين من سوريا وهم كثرة، وكلما أتيحت الفرصة لتقديم أحد منهم سنفعل ذلك، المشرف على الفرقة أحمد بوبس هو من يختار الأغاني ونتابع نحن معه بالتحضير والتنسيق الموسيقي. عملنا حتى الآن هو وضع الأسس التي سنعمل عليها في قادم الأيام. في الحفل الثاني قدمنا الموشحات التي يحبها الناس، وسنقدم في المستقبل ألحانا جميلة أصيلة راقية، ستبقى مسموعة حتى لو بعد آلاف السنين”.
وعن الألوان التي يقدمونها في فرقتهم وحصرها في الفن الغنائي السوري يبين عتمة “عربيا هنالك العديد من المدارس الغنائية منها المصرية التي هي مدرسة كبيرة وعريقة وأصيلة وأيضا العراقية والسورية وغيرها. في سوريا هناك مبدعون في التلحين من الراحلين الكبار ومن الطاقات الشابة، الذين يقدمون لنا نتاجات موسيقية غنائية متنوعة، ولدينا جمهور سمّيع حتى في فئة الشباب، ونلمس وجود ذوق سليم لدى البعض منهم، وهذا ما نتوجه إليه ونسعى للوصول إليه”.

أحمد بوبس: برنامجنا مرتبط بالملحنين وليس بالمطربين، فالملحن هو الأصل
وعن طموحهم من تكوين هذه الفرقة الفنية يقول لـ”العرب” “طموحنا تقديم الأفضل وأن نعيد رونق الغناء العربي إلى سابق عهده، بالشكل الذي اعتاده الناس، فنحن نعزف اللحن كما هو ولا نضيف إليه شيئا. البعض يضيف توزيعا جديدا يشوش على المادة الأصلية في الغالب. ونحن نطمح إلى دعم المواهب الشابة حتى في المحافظات، التي جبناها وتعرفنا على معظم طاقاتها، ووجدنا فيها ضالتنا لكن المشكلة تكمن في عدم وجود شركات الإنتاج. للأسف المواهب ينقصها الدعم المالي والمتابعة وهذا الأمر بالغ الأهمية لو أردنا تحقيق أهدافنا التي نسعى إليها”.
بعد تجارب وخبرة فنية اكتسبها من خلال الغناء الديني لسنوات مع المنشد حمزة شكور وكذلك ممارسة العمل الغنائي في لبنان، يقدم دياب سكر مجموعة من التواشيح التي كانت في الحفل.
يقول عن الموشحات التي قدمها “ألقينا الضوء في الحفل على ألحان خمسة ملحنين قدموا أعمالهم في الموسيقى الدينية والعاطفية، وهم أبوخليل القباني وعمر البطش ومجدي العقيلي وزهير منيني وسعيد فرحات وقدمنا شيئا لبكري الكردي. تراثنا الأصيل نعتز به، ننطلق من مفهوم أن من لا ماضي له لا مستقبل يملكه. ونسعى إلى أن نكون منبرا لجمهور السميعة. ألقينا الضوء على الموشحات التي فيها أوزان إيقاعية كبيرة منها: السماعي الثقيل والمخمس المصري والدور الهندي. هذا النمط من الغناء موجود في الغناء الديني بشكل كبير، نحن قدمنا ما يماثله. نقدم موسيقى عاطفية روحية تمتاز بوجود ربع الصوت الموجود بشكل واضح في خمس نغمات التي هي الصبا والراست والبيات والحجاز والسيكاه ونحاول ترسيخه في ذهن الجمهور”.
وعن نوعية التراث التي يحبها وكيف يتلقى الجمهور أعمالهم يتابع “أحب التراث بكل أشكاله، في حفلنا الأخير قدمنا الموشح بكل أصنافه، وفي المستقبل سنعزف الدور والقد والطقطوقة. كنا نقدم حفلات في أوروبا وكان الجمهور يتفاعل مع ما نقدمه من غناء وموسيقى ورقص المولوية على عكس ما يجري الآن. فالموسيقى تسجيل مع الغناء وتكون حلقات الرقص فقط الحية. ما نهدف إليه هو نقل هذا النمط من الغناء إلى أوروبا بحالته المثلى. ما قدمناه هو قسم صغير مما هو موجود فهنالك أسماء سوف تكون موجودة مستقبلا لها أعمال جميلة وخالدة”.