الغرب ينتقد العرب في قضية لم يستطع حسمها

المشكلة هنا لا تُناقش من وجهة نظر أن الرياضة أصبحت لوحة إعلانات مرخصة وغير مرخصة.. فمتى لم تكن كذلك؟ لكن المعضلة تتمثل في الزج بقضية شديدة التعقيد في ظرف بالغ الحساسية.
الأربعاء 2022/12/07
مسألة سلوكية تتعلق بنوع من الذوق الفردي

مونديال الدوحة لم يكتف بكرة القدم وحدها كهوية رياضية خالصة، وبعيدا عن النعرات والتجاذبات الفئوية في المجتمع والسياسة.

ولم يفوّت أصحاب المطالب على مختلف اتجاهاتهم فرصة وجود أكبر تظاهرة عالمية تجتمع فيها كل الثقافات ليعبروا عن قضاياهم ولفت الانتباه إليها أمام الكاميرات، ولو في غفلة من لوائح “الفيفا” ومواثيقها التي بدت أحيانا مرتبكة، وتراجع نفسها في كل مرة.

مجتمع الميم كان حاضرا في هذه التظاهرة الكروية مع جملة من يحاولون التعريف بقضاياهم التي يرونها عادلة بطبيعة الحال.. وهل توجد “قضية غير عادلة” في نظر أصحابها؟

المشكلة هنا لا تُناقش من وجهة نظر أن الرياضة أصبحت لوحة إعلانات مرخصة وغير مرخصة.. فمتى لم تكن كذلك؟ لكن المعضلة تتمثل في الزج بقضية شديدة التعقيد في ظرف زماني ومكاني بالغ الحساسية.

◘ يستمر المثليون موجودين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك أنهم لا يرتبطون بمرحلة أو طفرة أو نزعة أو عقيدة بل مثلهم مثل غيرهم من البشر دون مفاضلة

تبدو لي المسألة أشبه ببث مشاهد وحوارات “جريئة جدا، مهمة جدا وناضجة جدا” في تلفزيون عائلي قبل أن ينام الأطفال.

غالبية التحفظات التي أبدتها الدولة المضيّفة للمونديال إزاء هذه القضية، تبدو متزنة ومعقولة في مجتمع محافظ، إذ وإن أبدت الكثير من الليونة في استيعاب المختلف والمغاير عن بيئتها، فإن من حقها أن تطلب من الآخر احترام خصوصيتها، وليس تبنيها أو اعتناقها.

هي مسألة سلوكية أولا، وتتعلق بنوع من الذوق الفردي، وذلك بناء على مقولة المضيّف الكريم “تصرف كما لو كنت في بيتك، ولكن لا تنس أنك في بيتي”.

هذا على مستوى الانطباع العام، وعلى خلفية ما أثير حول منع اللاعبين من ارتداء شارات مجتمع الميم، أما عن الخوض الجدي والعميق في هذا الموضوع، فاللوم يقع على جميع الأطراف بمن فيها المؤيد والمعارض والمتحفظ على حد السواء.

تبدأ “اللخبطة” من قرارات الفيفا وتلويحها بالعقوبة الرياضية في مسألة غير رياضية كموقف تغطية لاعبي ألمانيا لأفواههم قبل هزيمتهم أمام اليابان بعد أن هدد الاتحاد الدولي لكرة القدم بفرض عقوبات “غير محدودة” على اللاعبين الذين يرتدون شارة المناهضة للتمييز في المباريات.

ولا تنتهي هذه “اللخبطة” عند إصرار أنظمة اجتماعية وقانونية وسياسية على التضييق على المثليين وكأنهم يرتكبون الجرائم عند التصريح بميولاتهم الجنسية، في حين أن لا حجة ولا ذريعة منطقية مقنعة تخوّل للسلطات منع هؤلاء من ممارسة حرياتهم في الاستجابة لما وُجدوا عليه من نوازع وطبائع وميولات.

أما القول بأن مجتمع الميم غريب عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهذا أمر فيه بعض الافتراء والتجني أو حتى الجهل بحقائق التاريخ على أقل تقدير.

وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث حسن عباس، أن معظم الأخبار والأشعار التي تتحدث عن المثلية، تعود إلى العصرين العبّاسي والأندلسي. هذا لا يعني أنها ممارسة نشأت في هاتين الحضارتين، فقد عرفت قبل ظهور الإسلام واشتهر بها بعض الخلفاء الأمويين.

وفي إشارة إلى أن المثلية ليست سلوكا يقصد به صاحبه تعمد الإساءة أو مرضا يمكن الشفاء منه، يروي الطبري في تاريخه أن والدة الخليفة العباسي الأمين حاولت ثني ابنها عن عادته هذه فأتت له بفتيات يتشبّهن بالغلمان دون أن تنجح في مسعاها. ويحكى أن الأمين كان متيّما بأحد الغلمان ويدعى كوثر وأنشد فيه شعرا يقول “كـوثـر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي/ أعجز الناس الذي يلحي محبا في حبيب”.

◘ مجتمع الميم كان حاضرا في هذه التظاهرة الكروية مع جملة من يحاولون التعريف بقضاياهم التي يرونها عادلة بطبيعة الحال

ويستمر المثليون موجودين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك أنهم لا يرتبطون بمرحلة أو طفرة أو نزعة أو عقيدة بل مثلهم مثل غيرهم من البشر دون مفاضلة أو مناهضة أو تمييز يرفضونه ويعتبرونه من العنصرية.

صفوة القول إن الفارق الوحيد بين المنطقة العربية الإسلامية والبلدان التي اعترفت بحقوقهم، هو فكرة التقبل المجتمعي والاعتراف القانوني.

أما من يناقش الموضوع من وجهة نظر دينية، فسيتوه ويتوّه نفسه بين إشارات الرفض والقبول والتحفظ، إذ لم يضع القرآن حدا واضحا على من يمارس المثلية واكتفى بالتطرّق إليها بشكل سلبي وبالذمّ لقوم لوط الذين مارسوها.

هي ليست دعوة إلى توخي سياسة النعامة والتجاهل اتقاء لما يمكن أن يثار من ردات الفعل في مجتمعاتنا، وكما هو الحال في أوروبا والولايات المتحدة، وإنما لا بد من بعض التريث وترك الأمور تجري في مسارها التطوري فما يدينه المجتمع الآن قد يتسامح معه غدا.

الصدمة الآن – كما يقول أحد الباحثين – هو أن يثار الموضوع من ركن منعزل اجتماعيا حتى بمقاييس مجتمع مثل قطر، ولا تجد الأجوبة على أسئلة الانفتاح والاختلاط العادية، فكيف وهي أمام قضية شائكة لم يستكمل الغرب نفسه، أجوبته حولها.

9