الغرب يفرض شروط الغيرية ومواصفات الاختلاف

كيف ننظر إلى الغيرية اليوم في ظل ليبرالية شرسة تدجّن اقتصادات شعوب العالم الثالث، وعولمة تكاد تفقد الشعوب خصوصياتها الثقافية؟ وهل تتحدد الغيرية بحق الاختلاف وحده؟ وهل يبلغ الاختلاف مبلغ الغيرية؟ هنا رأي على هامش ندوة “الغيرية والوجه الجديد للآخر” التي أقيمت مؤخرا في تونس.
شغلت مسألة الغيرية الفلاسفة منذ القدم، ولكن المصطلح تبلور مع إيمانويل ليفيناس في سلسلة من المقالات صاغها ما بين عامي 1967 و1989، وبحث فيها العلاقة مع الآخر، مبيّنا أن الإنسان في سعيه للخروج من عزلته يمكن أن يتبع مسلكين، إما المعرفة وإما التآنس أي الاجتماع.
ويرى ليفيناس أن المعرفة وحدها لا تكفي لمقابلة الآخر على حقيقته، ولا يمكن بحال أن تعوّض التآنس، الذي يتصل اتصالا مباشرا بالغيرية، وتعني لغةً كَوْنَ كُلٍّ من الشَيئين خلاف الآخَر، وتعني في العلوم الإنسانية الاعتراف بالآخر في اختلافه إثنيا ودينيا وثقافيا.
الأنا والآخر
يتفق المفكرون على أن الآخر ليس أنا، فهو من لا أكون، وفي الوقت نفسه له ذات مثلي، بوصفه ينتمي إلى الإنسانية، فهو شبيه ومختلف، قريب وبعيد، هو الذي لا يمكن أن أستغني عنه، وهو الذي لا يمكن أن أحتمله أحيانا. وأنّى لحريتين، حرية الأنا وحرية الآخر، أن تتفاهما دون أن تتصادما في مواجهة مستمرة؟ فالتفاهم مع الآخر ليس بالأمر الهيّن، لأن التوافق يقتضي الحدّ من حرية الطرفين، وعرقلة الرغبة. فالآخر إذن هو حدّ للذات، ولكن الأنا هي حدّ للآخر أيضا.
ومن ثَمّ يدعو ليفيناس إلى التآنس داخل المجتمع، لأن المجتمع يفرض حالة ثقافة يحقق داخلها الإنسان قدراته البدنية والذهنية، ولو أنه يظل رهين دافعين يتجاذبانه: الأول هو ضرورة الاجتماع بأناس آخرين، أي المساهمة في حياة مشتركة. والثاني هو رغبة البحث عن إرضاء مصلحة خاصة، أي بالعيش بمعزل عن الناس. وبما أنه مدفوع دائما بمصلحته الشخصية، فإنه سوف يقف في وجه أناس آخرين مدفوعين هم أيضا بمصالحهم الشخصية، ما يخلق تنافسا وتسابقا بين البشر، ينتج عنه صراع يخرج الفرد من خموله وكسله وينمي مواهبه وقدراته، فتنتقل أفكاره من استعداده الفظ إلى تبصره الأخلاقي، أي أن عدم قابليته الطبيعية للاجتماع تؤدي إلى قابلية اجتماع ثقافية.
وفي رأي هيغل إن أول لحظة لاعتراف الواحد بالآخر هي لحظة صراع بين وعيين يفرضان نفسيهما في البداية بنفي متبادل: كل واحد يريد أن يعترف به الآخر كي يخرج من ذاتيته، أي أن كل وعي يريد اعترافا من الآخر حتى يكون لديه دليل موضوعي عن وجوده. وبذلك يغدو الآخر، كتجسّد لحرية في العالم، جديرا بالاحترام، لأن العالم من دون الآخر سوف ينحصر في وجهة نظر وحيدة هي نظرتنا، وتَمثّل واحد هو الذي نقوم به.
الاختلاف ليس الغيرية
إن استعداداتنا السيكولوجية الطبيعية تجعلنا نجد صعوبة في قبول من يخالفنا، من هو غريب عنا ثقافيا، لأننا نبقى أمام المجهول بلا هادٍ ولا نقطة ارتكاز ممكنة للإجابة. فيكون أول ردّ فعلٍ رفض من لم نتعود عليه، رغم أن الجنس البشري واحد، وما الحضارات سوى تعبيرات خاصة لنوع واحد، وإنسانية واحدة. أي أن عدم اعترافنا بإنسانية الإنسان الذي يواجهنا، ووصفه بالهمجي، معناه أن نتصرف تصرّفا نأباه عليه.
كل هذا جميل ومنطقي في المطلق، ولكن الواقع اليوم عكس ذلك، فاستشراء الليبرالية الشرسة في وجهها الجديد، واجتياح العولمةِ الكونَ بشكل رهيب ولّدا أوضاعا متقلبة، وحدودا رمزية في نظر بعض المفكرين وفعلية في نظر السواد الأعظم، ساهمت في تعميق الاختلاف بين الـ”نحن” والآخر، لأن الاختلاف ليس قيمة في حدّ ذاته، إذ ثمة اختلافات غير مقبولة، ولاسيما تلك التي من غايتها أو من أثرها أن تنكر على الآخر حقه في الاختلاف. ومن نافلة القول إن حسن النية والتسامح والفضول لا تضمن وحدها الانفتاح على الغيرية.
فأنّى للآخرين أن يكونوا كالـ”نحن”، والحال أن هؤلاء ليسوا كذلك إلا لأنهم يضطهدون الآخرين؟ وهذه نقطة غالبا ما يُغفل عن ذكرها، وتُغفل معها أفعال المهيمنين على العالم لتقدَّم كمعيار كوني ينبغي على البقية السير على هَديِه.
وبما أن قدرات الـ”نحن” تقوم أساسا على اضطهاد الآخرين، فذلك يعني أن هؤلاء لن يستطيعوا أبدا بلوغ مقام الـ”نحن”، واضعي المعايير والقيم، ولا التموضع داخل ما يقدَّم كمعيار كوني يوهمون الآخرين بأنه في متناول الجميع، فيما هم يعملون على توفير أجوبة لا تنفك تعجّل آنيتها، وإغراق الأسواق بما لا ينفع، والتضييق على ما ينفع.
فالعولمة الحالية، التي غالبا ما تكون غير مقبولة في الأشكال التي تتخذها وعلامات الإخضاع التي تتوسل بها، تواصل فرض ميزان القوى الجائر، وتوهم بأن امتيازات رؤوسها، التي كسبتها على حساب الآخرين، دليلٌ على احترام المعيار الكوني، فيما فشلُ الآخرين مردّه إلى عدم احترام ذلك المعيار.
الآخر اليوم لم يعد سوى ذاك المختلف، ولكن الاختلاف ليس معادلا للغيرية، لأن الاختلاف هو مفهوم هووي
فالغرب يفرض شروط الغيرية، ومواصفات الاختلاف. وفي الوضع الحالي، لم يعد الآخر سوى المختلف، ولكن الاختلاف ليس معادلا للغيرية، لأن الاختلاف هو مفهوم هووي كما يقول الفرنسي فرنسوا جوليان.
في مقال بعنوان “بعضهم يتبع الآخرين”، تؤكد الباحثة الفرنسية كريستين ديلفي، أن كره “المختلف” ليس سمة طبيعية للنوع البشري، بل هو تقليد غربي، عبرت عنه الفلسفة، ووضعته كعنصر مؤسس وكوني للنفسية البشرية، وابتدعت مصطلح “الآخر”، والحال أن المجتمع هو الذي بنى هذا الآخر عن طريق ممارسات، منها الواقعي الملموس، ومنها الأيديولوجي الاستدلالي.
وفي رأيها أنها فلسفة مهيِمنين تجري الحياة المادية لصالحهم كما يهوون. وفي هذا التقليد الغربي الذي شكله ثم صاغه الفلاسفة، يبدو الآخر عند هيغل مثلا مسألة فلسفية، ويبدو لدى سارتر تهديدا إذ كتب يقول “إن كل وعي يريد قتل الآخر”. فالآخر هو ما يحدده الغرب بوصفه ذاك، لكونه هو الذي يملك سلطة التمييز والتسمية والتصنيف والترتيب، وما تعرّف على الآخر إلا لاحتلال أرضه ونهب خيراته.
يقول جان بيير لوبران “إن الغيرية في خطر لأنها ببساطة لم تعد في مكانها الحق. صار الناس اليوم يخلطون بينها وبين الاختلاف، والحال أن الاختلاف لا يبلغ مقام الغيرية”.