الغرافيتي يعود إلى المدن العربية مدجّنا ومقلّم الأظافر

فن ولد في كنف التمرّد والسرّية أفقدته الوظيفة التزيينية روحه الأصلية.
الجمعة 2021/11/19
فن أشبه بنشرة سرّية محظورة

يعتبر الغرافيتي أو الرسم على الجدران سيّد فنون الشارع، لما يتّصف به من جرأة وتمرّد على المحظور. وقد ازدهر في المدن الأوروبية والأميركية، لكن العالم العربي بدأ يتعرّف عليه في نسخة يشوبها التقليد وترعاها مؤسّسات رسمية على سبيل التزيين، ممّا أفقده خصوصيته رغم أن للكتابة والرسم على الجدران حضورا لافتا في الأحياء العربية الفقيرة في الغالب.

أغلب الظن أن فن الغرافيتي كشكل تعبيري يرتبط بالتمرّد والثورة على القيم السائدة. لم يهجر جدران المدن العربية كي نقول إنه قد أزهر فوقها وازدهر في السنوات الأخيرة بل، في اعتقادي، أنه عاد إليها مدجّنا ومقلّم الأظافر بواسطة مؤسّسات رسمية ومعارض منظمة بعد أن كان يمارس في كنف السرية كوسيلة لا غنى عنها للاحتجاج وتحدّي سلطتي الدولة والمجتمع.

ولعلّ خير دليل على “سرية” فن الكتابة والرسم على الجدران بالبخاخات وأدوات الحفر والتلوين والطباعة البسيطة المتاحة، هو الفنان الإنجليزي الشهير  بانكسي الذي ظهرت رسوماته المختلفة في العديد من المواقع في بريطانيا وحول العالم منها في الضفة الغربية على الجدار العازل، لكن لا أحد يعرف شكله أو اسمه الحقيقي أو أي تفاصيل خاصة عنه.

فن نكران الذات

بانكسي في رسمه للموناليزا وهي تحمل بين يديها قطعة سلاح يقيم الدليل على أن الغرافيتي فن يشترط الثورية والنضال بالأساس
بانكسي في رسمه للموناليزا وهي تحمل بين يديها قطعة سلاح يقيم الدليل على أن الغرافيتي فن يشترط الثورية والنضال بالأساس

هذا الفن الذي عادة ما يمارس في كنف السرية وتحت جنح الظلام، بدأ بتناول المحظور والممنوع والمسكوت عنه فوق جدران الأحياء الفقيرة المظلمة لتشرق عليها الشمس في صباح اليوم التالي، فيقرأها ويشاهدها الناس مثل نشرة سرية محظورة، وقد اشترك جميعهم في قراءتها علنا وعلى الملأ.

هل جرّد العالم اليوم فن الغرافيك من جاذبيته التي تزيدها السرية ألقا ليتخلى عن تمرّده و”يُمأسس” ويدخل بيت الطاعة عبر الملتقيات والتظاهرات المقامة في وضح النهار وتحت الأضواء وفوق منصات التتويج وعلى إيقاع الجوائز والتكريمات؟

وعلى ذكر الجوائز والتكريمات، ففي تاريخ الحادي والعشرين من مايو 2007 حصل بانكسي على جائزة أعظم فنان يعيش في بريطانيا، والتي وزّعتها قناة “أي.تي.في” البريطانية وكما كان متوقعا لم يحضر بانكسي لاستلام جائزته واستمرت شخصيته مجهولة حتى اللحظة.

والفنان الذي ظهرت أولى رسوماته عام 2003 على جدران بريستول ولندن، وأثارت العديد من التساؤلات حول شخصه وأفكاره خصوصا صورة الموناليزا وهي تحمل قطعة سلاح، يقيم الدليل في كل مرة على أن الغرافيتي فن يشترط “نكران الذات” كمبدأ ثوري نضالي بامتياز، هذا بالإضافة إلى خلخلة المفاهيم السائدة حول تحنيط الفن وتمجيده كما يظهر من خلال امرأة ليوناردو دافنشي التي استعاضت عن جمالها وتسلحت بسلاح تحمله بين يديها.

وبالعودة إلى جدران بعض المدن العربية التي طالما ألصقت فوقها صور الزعماء والحكام، وحملت شعارات الطاعة والتأييد، فإنها لم تخل كذلك من رسومات وكتابات تتمرّد على الواقع وقد كتبت في جنح الظلام، وجاهدت شرطة الأنظمة البوليسية والعسكرية في محو آثارها صباح اليوم التالي.

على فن الغرافيتي العربي أن يكون متسقا مع هوية المدينة
على فن الغرافيتي العربي أن يكون متسقا مع هوية المدينة

صحيح أن ما كان يُرسم ويكتب على جدران المدن العربية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، لم يكن ذا قيمة وازنة على مستوى الشكل والمحتوى، افتقد إلى الجماليات، وتضمّن الكثير منه عبارات نابية أو حتى عنيفة اللفظ كشتم من يرمي القمامة هنا أو هناك، لكن تلك “الخربشات” كانت تنتمي إلى فن الغرافيك شئنا أم أبينا، وذلك لتوفّر عناصر التلقائية والفردية والسرية، أي أنها بعيدة عن التنظيم المؤسساتي.

أما اليوم، وقد بات لهذا الفن الذي نظنه وافدا من الخارج، ملتقيات وورش وجوائز وتظاهرات، فإنه في أغلبه  قد جاء إلينا نسخة باهتة ومقلّدة لما تتضمّنه شوارع وجداريات المدن الأوروبية والأميركية.

تبدو لنا صورة الغرافيك في المدن العربية خالية من الروح، لأنها تنزع نحو التقليد وتروم الغاية التجميلية، وليس الفنية النابعة من هوية المدينة ومزاج سكانها.

ماذا يعني أن تقيم جدارية لأحد نجوم البوب أو الجاز أو الفوتبول الأوروبي وأنت في مدينة عربية ذات تركيبة ريفية يرقص أهلها الدبكة، ينفخون في الشبابة ويأكلون المنسف أو الكسكسي.

خلل قاتل

مأسسة فن الغرافيتي عربيا أدخلته بيت الطاعة
مأسسة فن الغرافيتي عربيا أدخلته بيت الطاعة

الأمر هنا لا يتعلق برفض فنون العالم والاكتفاء بالانغلاق على الذات رافضين شتى أشكال العولمة بمفهومها الثقافي لا السياسي، وإنما الحاجة إلى ما يشبه مدننا وسكانها وتطلعات شبابها.

الغاية التجميلية من جهتها تسلب فن الغرافيك رونقه، وتجعله مجرّد أداة للتزيين و”ستر العيوب العمرانية”، في حين كان يمكن ملء هذا الفراغ بما يشبهه أو يعوّضه جماليا أو حتى الاستغناء عن هذه المهمة التزيينية ربما يكون أنفع وأفضل. 

ماذا يعني أن تقيم جدارية لأحد نجوم البوب أو الجاز وأنت في مدينة عربية ذات تركيبة ريفية يرقص أهلها الدبكة

هذا الخلل الذي أصاب فن الغرافيك في مقتل لدى المدن العربية جاء بسبب تبني المؤسّسات الرسمية والحكومية لتلك المشاريع التي لا تخرج عن كونها ماكينة دعائية لبلدية أو وزارة أو أي جهة رسمية.. ومن هنا تصحّ القاعدة: إن الدولة إذا دخلت في فنون الشارع بالتنظيم والتوجيه، أجهزت عليها وقتلتها.

لنوكل الأمر إلى المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والمبادرات الفردية.. المبادرات الفردية هي الروح التي يتنفّس من خلالها فن الغرافيك وكل فنون الشارع بصفة عامة.

الجداريات كانت ولا تزال موقفا احتجاجيا  بامتياز، ومنذ قدماء الفراعنة الذين سخر أحد العمال من بنائي الأهرام من وضعه المعيشي المزري فرسم على جدار كهفه الذي يأوي إليه بعد يوم شاق، غرابا يطلع السلم درجة درجة والعرق يتصبّب من ريش جناحيه.. واعتبر مؤرخو الفن هذا الرسم أول جدارية تكتشف في فن الغرافيتي.

وهكذا يعتبر الغرافيتي إذن أقدم وسيلة للتعبير استخدمها البشر، وبهذا المنطق يبرّر رسامو الغرافيتي لأنفسهم “احتلال” المساحات العامة بألوانهم ونقوشهم، “لعل أجيال المستقبل ستتعرّف إلى حياتنا الحالية من خلال هذه الرسوم” كما يقول أحدهم، أي أنه يقوم بوظيفة توثيقية إلى جانب قيمته الجمالية.

الصدام مع السلطات الحاكمة في المدن، شرط بل يكاد يكون أمرا لا بد منه في فن الغرافيتي، حيث أسّست في نيويورك فرقة خاصة بمكافحة رسوم الشوارع لإزالة تلك “البشاعات”، كما يصفها شرطي، عن جدران المدينة.

الغرافيتي فن احتجاجي وليس سترا للعيوب العمرانية
الغرافيتي فن احتجاجي وليس سترا للعيوب العمرانية

وينبغي التذكير بأن البلديات وأصحاب العمارات في الولايات المتحدة، صرفت الملايين لإيقاف هذا النوع من الفن، إذ كانت تعمل باستمرار على إزالة تلك الرسوم من خلال إعادة طلاء الجدران، دون جدوى؛ فاستسلمت تلك البلديات للأمر الواقع لتخصّص بعض الحيطان للغرافيتي، تاركة إياها لإبداع الرسامين.

بعد هذه المسحة العابرة لفن الغرافيتي وملابسات نشأته، هل يمكن القول إن لهذا الفن مستقبلا في المدن العربية؟ سؤال في عهدة هذه “المدن”، طبيعة تركيبتها والقائمين عليها، والأهم من ذلك واقع حرية هذا الفن في العالم العربي الذي رافق ما يعرف بـ”الربيع العربي” في كل من مصر وتونس وسوريا والسودان الآن، إذ دعا ناشطون عبر رسائل نصية ورسوم غرافيتي على الجدران، السودانيين إلى التظاهر بكثافة لإعادة السلطة إلى المدنيين وتجنيب البلاد الغارقة في ركود سياسي من دكتاتورية عسكرية جديدة.

14