العولمة وسيطرة الآلة والمنتجات الصناعية تدفعان بالنحاتين إلى الاغتراب

منحوتات الهواء الطلق توازن بين البيئة والثقافة والجمالية الفنية.
الثلاثاء 2024/04/02
النحت مفاهيم جمالية ورسالة

رافق فن النحت الحضارة الإنسانية منذ قرون، حتى أنه اعتبر قرينا للحركة الحضارية وأداة توثيق هامة لحياة الشعوب وثقافاتها وعاداتها ومعتقداتها ورؤاها الجمالية والفكرية، ومازالت للنحت مكانة كبرى خاصة في الساحات والأماكن العامة، لكن وضعه ليس على ما يرام خاصة في ظل انتشار العولمة وذهاب النحاتين أكثر إلى التجريب الذي قد لا يكون موفقا. 

تشكل الأعمال الفنية النحتية مصدرا من مصادر نمو الذوق الجمالي للمجتمع، لما لها من خصائص شكلية جمالية تساعد في زيادة الخبرة الفنية والذوقية لجماهير المشاهدين، حيث تنتشر تلك الأعمال في مواقعها المكانية في علاقة مباشرة مع الجمهور بالميادين والساحات والحدائق العامة وكذلك الأبنية المعمارية العامة والخاصة. ومهما بدت هذه الأعمال الفنية بسيطة في شكلها وفي مضمونها الفني فإنه يمكن الكشف فيها عن قيم جمالية وعاطفية ورمزية.

وهذا الكتاب “النحت في الهواء الطلق بين القيم التعبيرية والجمالية” للباحث عمرو عبدالقادر محمود والصادر عن مكتبة الأنجلو المصرية، يتناول مفهوم النحت في الهواء الطلق وأساليب تنفيذه وتقنياته، ومفهوم البيئة وعلاقتها بالمفاهيم الجمالية للأعمال النحتية الميدانية وأهمية القيم التعبيرية التي تقدمها هذه الأعمال في الميادين والحدائق في تنمية الحس الجمالي والفني لدى أفراد المجتمع. ويحلل الكثير من الأعمال النحتية المصرية والعالمية لنخبة من النحاتين الكبار.

وسيلة ناجعة

يؤخذ على بعض إنتاجات النحت المصري المعاصر الغموض نتيجة لاتخاذ العناصر المجردة مادة للتعبير وتحريف الأشكال
يؤخذ على بعض إنتاجات النحت المصري المعاصر الغموض نتيجة لاتخاذ العناصر المجردة مادة للتعبير وتحريف الأشكال

يرى عمرو أن فن النحت يعد أقدم وسيلة إعلامية مرئية تصدت لمشكلات البيئة، وهي الوسيلة الأكثر نجاحا في الوصول إلى رجل الشارع العادي، فهي قادرة على اختراق حاجز اللغة لتصحيح المفاهيم الخاطئة في المجتمع، كما أنها يمكن أن تكون داخل الأماكن المغلقة في قاعات العرض والمنازل أو في الميادين العامة والأماكن المفتوحة لتقدم حلولا غير تقليدية للمشكلات البيئية المختلفة.

ويقول إن هناك فرق بين العمل الفني النحتي الذي يعرض في الأماكن المفتوحة وبين البيئة سواء كان ذلك العمل مجسما في الفراغ، مثل أعمال النحت الكامل، أو مرتبطا بالعمارة مثل أعمال النحت البارز أو الغائر أو ما يطلق عليه النحت الجداري، وقد بدأت تلك العلاقة منذ العصور القديمة، وتأكدت خلال فنون الحضارات الكبرى في مصر والعراق واليونان وفارس وإيطاليا وغيرها من فنون الحضارات القديمة.

ويتابع أنه في ظل العولمة وسيطرة الآلة والمنتجات الصناعية على الحضارة اختفى الطابع الإنساني وظهر خلل في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والجذور التاريخية والثقافية وهو ما أدى إلى اغتراب النحات المعاصر عن البيئة المحيطة به، كما أن انبهار النحات باتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة أدى إلى ثورة على العوامل البيئية المؤثرة في العمل الفني مما أفرز أعمالا نحتية دخيلة على البيئة أخلت بالاتزان البيئي، وأدت إلى فقدان جماليات البيئة الطبيعية أو أعمال منعزلة عن البيئة،  وهنا تبرز الحاجة إلى فنون تتصالح مع البيئة كمنبع للإبداع والأصالة، والعودة إلى التأكيد على دور فن النحت الرائد في تنمية الوعي البيئي والتصدي لقضايا البيئة كأحد محاور الإعلام.

ويرى عمرو أن فن النحت ينقل الخبرة بالارتكاز الثابت على الأرض، هذه الخبرة يعبر عنها على نحو أكثر ملاءمة في الأشكال النحتية أكثر من أي نوع آخر من الأعمال الفنية، ولاسيما الأعمال النحتية في الهواء الطلق والمنتشرة في الميادين والحدائق العامة ذات الصلة المباشرة بجمهور المشاهدين، فهي بمثابة محك مباشر للخبرة الجمالية. فالعمل النحتي حين يوضع وسط أجواء الأماكن العامة وفي الميادين يصبح عملا جماهيريا، ويشغل جانبا من تفكيرهم وتنشأ علاقة مباشرة بين العمل النحتي والجمهور.

وعلى هذا يتحول العمل الفني عندئذ إلى فن مؤثر في بيئته الاجتماعية، ولذا فمكان العمل في بيئته لابد وأن يكون متوافقا مع العمل الفني، لأن المكان هو الذي يبرز العمل وسط عناصره بشكل مناسب لأن خصائص المكان تدرك كلها بما فيها العمل الفني، وهذه مسؤولية الفنان في اختيار المكان، والكيفية المناسبة للعمل لوضع عمله الفني داخل المكان، بل وتهيئة المكان بالطريقة التي يراها مناسبة للعمل النحتي بما يحقق أفضل وضع جمالي للعمل، فالعين تدرك الجمال وتلفظ القبح ولا تهتم بغير ذلك، فقد يكون العمل جيدا في ذاته، ولكنه قد يتأثر عند إضافته للمكان غير المهيأ لوجوده، فتقل جودته.

التوافق الجمالي

الفن في الأماكن العامة له شروطه
الفن في الأماكن العامة له شروطه

يؤكد الباحث أن الانسجام بين أجزاء العمل النحتي في الهواء الطلق وحجمه وبين البيئة المكانية والثقافية يؤكد الهدف من وجود العمل النحتي الميداني، ويحقق متعة المشاهدة للمتذوق، ويدفع على التأمل وفي هذا إدراك لخصائص المفاهيم الجمالية للعمل النحتي.

ويضيف أن المكان المتوافق مع العمل الفني هو المكان الذي يبرز العمل وسط عناصره بشكل مناسب، فالفنان هو المسؤول الأول مسئولية مباشرة عن اختيار الكيفية المناسبة لوضع عمله الفني داخل المكان، بل وتهيئة المكان بالطريقة التي يراها مناسبة للتمثال وبما يحقق أفضل وضع جمالي له.

 ولما كان ارتباط التمثال الميداني بالضخامة والصرحية حتى يمكن رؤيته، فكان لزاما على المصمم للتمثال أن يتدارس جيدا مساحة موقع العمل الذي سيعرض فيه التمثال، والفراغ المحيط به، وعلاقته بالمستوى الرأسي له ومحاور الرؤية حتى لا يضعه في مساحة أقل من المناسب لرؤيته فيحدث اختناق للشكل ويفقد هويته الصرحية كما حدث لتمثال رمسيس الثاني في ميدان باب الحديد بعد إضافة الكباري العلوية لصرحيته لرؤيته من أغلب الاتجاهات ولذا قاموا بنقله إلى المتحف المفتوح حتى يتمكن الناس من رؤيته وتذوق جمالياته.

ويشير عمرو إلى أن خصائص المكان تدرك كلها بما فيها العمل، والفنان بدوره يجب أن يدرك كيفية تفادي مناطق القبح غير متهاون في سبيل أن يبدو عمله في وجهة مبهرة أخاذة، بحيث تشغل العين تماما عن النظر إلى القبيح. وتوافق الخامة يُعد من العوامل الهامة من عوامل التوافق الجمالي لأعمال النحت في الهواء الطلق مع الميادين والحدائق والمناطق المفتوحة، حيث تلعب الخامة دورا في تحقيق الإحساس بحيوية العمل الفني، فكلما كانت الخامة صلدة صعبة التشكيل، كما عكست هذه الصلادة على رائيها إحساسا بالقوة التعبيرية لموضوع العمل، والصعوبات التي تقابل الفنان في المعالجات التشكيلية للعمل الفني من الخامات القاسية، قد تجعل المتذوق في موقف الاندهاش من إمكانية الفنان، وبالتالي يتحقق عنصر الإبهار والتقدير للعمل الفني والفنان على حد السواء.

الانسجام بين أجزاء العمل النحتي في الهواء الطلق وحجمه وبين البيئة المكانية والثقافية يحدد أهمية المنحوتات

ويتابع إن جمال العمل الفني لا ينحصر بالضرورة في جمال الموضوع المباشر الذي يمثله، بل هو يتجلى أولا وبالذات في صميم مظهره الحسي، ولهذا فإن دعاة النحت المجرد، يحاولون إرضاء عيوننا على التمتع بالمظاهرة الحسية وحدها، فتراهم يغفلون أهمية الموضوع المباشر، ويضعون أمام أنظارنا بعض المظاهر، التي تقدمها لنا الأخشاب والأحجار والغرانيت، بدعوى أن المهم في الفن ليس قهر المادة على محاكاة بعض الموضوعات بل اتخاذها وسيلة لإظهار كل ما في المحسوس من بريق وبهاء.

وعلى هذا الصعيد فقد تفرض الخامة على الفنان طبيعتها الحسية، والأسلوب الأمثل الذي يجب على الفنان اتباعه في تناولها الجمالي، فأسلوب المعالجة الفنية لخامة الحجر تختلف كلية عن معالجة السطوح في الخشب، والموضوعات الجمالية الملائمة للحديد غير الموضوعات الملائمة لخامة البرونز المسبوك، بل إن بعض الخامات الصالحة للتشكيل الفني لا تسمح إمكانياتها المادية بإقامتها في الفراغ المفتوح.

ويلفت عمرو إلى أن هنري مور سار على هذا النهج فقدم لنا تمثالا لامرأة راقدة، وأظهر به فن النحت لا يقوم على محاكاة الأشكال أو نقل السمات أو ترديد الصور، وإنما هو في صميمه، ترجمة للمعنى من مادة إلى أخرى وبهذا المعنى تصبح مهمة النحات ـ كما هو الحال بالنسبة إلى أي فنان آخر ـ السهر على تربية المادة حتى ينتقل بها من حالة وجود تعسفي إلى حالة وجود منظم عقلي.

وعن المردود اللوني للخامة، فيما يتعلق بأعمال النحت في الهواء الطلق، يضيف “نلاحظ أن الخامات ذات اللون الفاتح -الرخام الأبيض- قد تضمحل تفاصيلها في الهواء الطلق مع الضوء الباهر من أشعة الشمس، إلا إذا اضطر المثال أن يكثف من الفجوات ليؤكد بظلالها التفاصيل المميزة مضحيا بمبدأ البساطة في هذا المجال، إلا أن الأمر في الحدائق مختلف، فالخامات الداكنة ممتصة للضوء بطبيعتها، ولذا لا تظهر ظلال التفاصيل إلا من مسافات قريبة، فقد تصلح في بعض الأماكن التي تمكن الجمهور من الاقتراب من العمل الفني بشكل يسمح فيه من رؤيتها الجيدة.

 ومن عوامل التوافق الجمالي لأعمال النحت في الهواء الطلق مع الميادين والمناطق المفتوحة توافق المشاعر، حيث أن التعبير عن المشاعر يمثل العنصر الوجداني في العمل الفني، فيظهر الصلة القوية التي تربط الفنان بعمله الفني، والتعبير هو بمثابة السحر الذي يستخدمه الفنان في النفوذ إلى مشاعر المتذوق، والرضا الجمالي يتحقق نتيجة التعاطف والمشاركة، فالمتذوق يميل غالبا إلى أقرب تمثيل لذاته أثناء مشاهدته للعمل الفني.

المعايير التعبيرية

النحت الوسيلة الأكثر نجاحا في الوصول إلى رجل الشارع العادي واختراق حاجز اللغة لتصحيح المفاهيم في المجتمع
النحت الوسيلة الأكثر نجاحا في الوصول إلى رجل الشارع العادي واختراق حاجز اللغة لتصحيح المفاهيم في المجتمع

يرى عمرو أنه لإبراز الأثر الجمالي للأعمال النحتية في الهواء الطلق على البيئة المحيط لابد من توافق عدة عوامل وترابطها ليتحقق التوافق الجمالي لهذه الأعمال مع الميادين والحدائق التي توضع بها تلك الأعمال وهي: أولا توافق الموضوع، ثانيا توافق المكان، ثالثا توافق الخامة، رابعا توافق المشاعر. وهذه العوامل لابد أن تترابط وتتكامل مع بعضها البعض في نسيج واحد لتحقيق الهدف، وهو العثور على معايير جمالية وتشكيلية للتماثيل النحتية في الهواء الطلق تؤثر في البيئة المحيطة بها جماليا، وتثير انتباه المتذوق وتحثه على إدراك القيم الجمالية بتلك الأعمال.

ولتوضيح الأثر الجمالي للأعمال النحتية في الهواء توقف الباحث على بعض المفاهيم الجمالية في العمل النحتي والتي تمكن من حصرها في: التعبير والمضمون للعمل النحتي الميداني وأثرهما في تذوق ذلك العمل، والمفاهيم التشكيلية وأثرها جماليا، والمفاهيم الوظيفية للعمل النحتي في الهواء الطلق. ويشير إلى أن الفارق بين النحات المصري القديم والنحات المعاصر بأن الأول كان مشغولا بالتعبير عن الوجود وكان إنتاجه يتأرجح بين الطبيعي وما فوق الطبيعي، أما الثاني فإنه يعبر عن تأثير الوجود في النفس الإنسانية، والدليل على ذلك أن معظم الأعمال النحتية المنتشرة بميادين مصر في الوقت الحالي تتصف جميعها بأنها تعبير عن واقع إنساني مشترك كما أنها تتصف بالتعبير عن تفاصيل حياتية تخص حياة المجتمع الذي يعيش فيه، وخير دليل على ذلك تمثال نهضة مصر لمحمود مختار.

ويرى عمرو أنه يؤخذ على بعض إنتاجات النحت المصري المعاصر، الغموض نتيجة لاتخاذ العناصر المجردة مادة للتعبير وتعمد بعض النحاتين المعاصرين تحريف الأشكال المألوفة بدعوى الحرية في التعبير، حتى لقد شق على الكثيرين تذوق الأعمال المعاصرة، سواء كان ذلك لعد الوضوح أم لغربة أشكال التعبير فيها.

ويلاحظ أن المعايير التعبيرية للأعمال النحتية في الهواء الطلق من مكان لآخر، حسب المكان الذي يوضع فيه العمل النحتي، ويوضح الاختلاف في نقاط، أولها أن التعبير في تماثيل الميادين يجنح نحو الإحساس بالإجلال والإبهار للمدى الذي تتحقق فيه موضوعية التمثال، وثانيها أن هذا مغاير للتعبير في تماثيل النحت في الحدائق والذي من المفترض أنه يعبر عن روح البهجة والسرور استنادا لوظيفتها الترويجية وتوحدها مع طبيعة عناصر الحديقة السارة، كما يجنح التعبير في تمثال الميدان نحو إثارة الانتباه الجمعي، بطريقة توحدهم على إدراك مواطن الجمال التي يكشفها العمل الفني المنصوب في هذا الميدان.

 وثالث المعايير أن التعبير في تمثال الحديقة ينشر الدفء ويعطر الشجون في أرجاء الحديقة الرحبة، والمفترض أن تتوافق التعبيرات الفنية لتمثال الميدان مع الاحتمالات النفسية المتوقعة من قبل المشاهد لمفهوم التمثال في الميدان، وبالتالي التوافق التعبيري لمفهوم تمثال الحديقة لابد أن يتفق مع الانطباعات النفسية المنطقية لزوار الحدائق. ورابعها أن تمثال الميدان يؤكد على التعبيرات الجمالية التي تتسم بالرصانة والاستقرار وسط التنوع الحركي حول الميدان والكتل المعمارية.

13