العولمة لم تمت.. لكن، تُبدّل جلدها

هل يعيد التاريخ نفسه وتعيد العولمة إنتاج نفسها أم تنهي الحرب ما بدأته الجائحة وتنجز ما عجز عنه الوباء ونشهد نهاية العولمة؟ هذا ما يؤمله الشعبويون واليمين المتطرف ودعاة الأيديولوجيا.
الثلاثاء 2023/01/10
العولمة ليست نظام حكم يزول بزوال مسبباته

بعد ثلاث سنوات مازال العالم يواجه وباء كورونا. لا يقتصر ذلك على الدول الفقيرة، الاقتصاديات القوية تعاني هي الأخرى، رغم كل الجهود التي بذلت، ورغم التباعد الاجتماعي والعزلة التي فرضت على مواطني الدول، وإغلاق الحدود والمكاتب. عزلة طالت أفراد الأسرة الواحدة، وتسببت في تعطل سلاسل التوريد، وأزمة اقتصادية عالمية، وبروز ظاهرة الشعبوية. إلى جانب ذلك كله تسببت في ظهور نبوءات تتحدث عن نهاية عصر العولمة، الذي استمر، بالكاد، أربعة عقود.

وقبل أن يتراجع الحديث عن كورونا وتأثيراته ويخفت صوت الداعين للعولمة، جاءت الحرب الأوكرانية لتدعم أصحاب هذه النظرية ومن بينهم فريد زكريا الذي كتب قائلا إن “الحرب الباردة الجديدة تمثل نهاية عصر العولمة والتكامل الذي شكل النظام الدولي منذ عام 1989”.

ولكن هل حقا أن العولمة ماتت، وكل ما تبقى هو أن نقف على قبرها، ونتذكر محاسنها؟

◙ "العولمة تحتضر"، ولكن، في ذهن السياسيين الشعبويين في أوروبا والولايات المتحدة فقط. أما بالنسبة إلى بقية العالم، فلم تصلهم أخبار احتضار العولمة بعد

العولمة لم تمت، وهي لم تبدأ عام 1989، كما قد يبدو من كلام زكريا، ما تحدث عنه زكريا هو شكل من أشكال العولمة التي طالما غيرت من شكلها.

ما نشهده اليوم، شهد العالم مثيلا له منذ مئة عام، بالتحديد عام 1918، كانت هناك حرب مستعرة (الحرب العالمية الأولى) كتبت نهايتها في الحادي عشر من نوفمبر من ذلك العام. في ذلك العام تفشت الأنفلونزا الإسبانية، واكتسحت العالم في ثلاث موجات متتاليات: أولها في ربيع 1918، والثانية في خريف 1918، والثالثة امتدت من شتاء 1918 إلى ربيع 1919. ولم تنته الجائحة حتى أصابت أكثر من نصف سكان العالم بالعدوى. ويشير المؤرخون وعلماء الأوبئة إلى أن نِسب الوفاة الناجمة عنها تراوحت بين 2.5 في المئة إلى 5 في المئة من سكان العالم، أي ما بين 50 و100 مليون حالة وفاة تقريبا.

في عام 1914 بدأت حرب، تلتها بعد أربع سنوات جائحة. في عام 2020 سبقت الجائحة الحرب (غزو أوكرانيا) بعامين، والنتيجة دائما واحدة، أزمة اقتصادية حادة ونقص في إمدادات الغذاء والطاقة، وفقدان الثقة بالنظام العالمي.

سرعان ما نسي العالم الحرب العالمية، ونسي بعد ذلك بقليل رقم 50 أو 100 مليون ذهبوا ضحية الأنفلونزا، لتستجمع العولمة قواها ثانية. وإن حدث ذلك بجلد وشكل آخر.

هل يعيد التاريخ نفسه اليوم، وتعيد العولمة إنتاج نفسها بشكل جديد، أم تنهي الحرب ما بدأته الجائحة، وتنجز ما عجز عنه الوباء، لنشهد نهاية العولمة؟

هذا ما يؤمله الشعبويون، واليمين المتطرف، ودعاة الأيديولوجيا.

دعونا ننسى ما يروج له دعاة الأيديولوجيات والانغلاق، وننظر إلى لغة الأرقام. فالاقتصاد، أولا وأخيرا، أصدق أنباء من السياسة.

فريد زكريا: الحرب الباردة الجديدة تمثل نهاية عصر العولمة والتكامل الذي شكل النظام الدولي منذ عام 1989
فريد زكريا: الحرب الباردة الجديدة تمثل نهاية عصر العولمة والتكامل الذي شكل النظام الدولي منذ عام 1989

في الشهر الأخير من عام 2022 صدر تقرير عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) حول التجارة العالمية، قدم لمحة عن الاتجاه الذي نسير فيه، تؤكد أونكتاد في تقريرها أن التجارة العالمية سجلت رقما قياسيا جديدا بلغ 32 تريليون دولار خلال العام الماضي؛ بلغت تجارة السلع 25 تريليون دولار، بزيادة 10 في المئة عن عام 2021، وسجلت تجارة الخدمات رقما قياسيا بلغ 7 تريليون دولار بزيادة 15 في المئة عن العام السابق.

وكما لاحظ التقرير فإن “النمو الإيجابي في حجم التجارة الدولية يشير إلى مرونة الطلب العالمي”.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة تناقلت وسائط الإعلام الكثير من الأخبار عن سلاسل التوريد، وما يسببه انقطاعها من أزمات في إمدادات الغذاء والطاقة.

في تونس، حيث أقيم، يظن الناس أن انقطاع القهوة والسكر والأدوية والنقص في الحبوب وارتفاع أسعار الطاقة، صناعة محلية، بينما في حقيقة الأمر يعود جزء كبير من الأزمة إلى الخلل الذي شهدته سلاسل التوريد. أولا، بفعل كورونا. وثانيا، بفعل الحرب.

نعم، العولمة وعصبها سلاسل التوريد، أو بلغة أكثر وضوحا، ثورة الشحن العالمية، هي وراء ترشفنا لفنجان القهوة الساخن صباحا. هي التي يسرت على الأوروبيين ارتداء ملابس مصنوعة في بنغلاديش أو في الهند وفيتنام، تحمل شعار كبرى دور الأزياء العالمية بأسعار معقولة. وهي ما تسهل لي اليوم الكتابة حول العولمة، مستعينا بمحرك البحث غوغل، وكمبيوتر محمول، وهاتفي الذكي. رغم أن جهاز الهاتف، الذي أتفاخر بشعار التفاحة المقضومة المنقوش عليه، صنع في الصين.

حرية التجارة ليست الفضيلة الوحيدة للعولمة. وفقا للاتحاد الدولي للنقل الجوي سجلت حركة السفر الجوي تنقل أكثر من مليار مسافر دولي قبل الوباء، وعدنا الآن إلى حوالي 75 في المئة من ذروة ما قبل الوباء. أما شركات الطيران التي قاربت من الإفلاس، فهي في طريقها لتحقيق الأرباح خلال عام 2023.

لننسى كل ذلك. ما هو رد الحالمين بموت العولمة على رقم 100 تريليون دولار (ضع رقم واحد وأمامه 14 صفرا) هي قيمة الأسهم المطروحة بالأسواق العالمية، يتم شراؤها وبيعها يوميا دون أن يضطر البائع والشاري لمغادرة باب منزلهما؟

إنها عولمة فوق العولمة. إنها سوبر – عولمة.

◙ قبل أن يتراجع الحديث عن كورونا وتأثيراته ويخفت صوت الداعين للعولمة، جاءت الحرب الأوكرانية لتدعم أصحاب هذه النظرية

“العولمة تحتضر”، ولكن، في ذهن السياسيين الشعبويين في أوروبا والولايات المتحدة فقط. أما بالنسبة إلى بقية العالم، فلم تصلهم أخبار احتضار العولمة بعد. 75 في المئة من سكان العالم مشغولون بعقد صفقات تجارية.

العولمة ليست نظام حكم يزول بزوال مسبباته. العولمة، لو تعمقنا قليلا في تحليلها، ظاهرة طبيعية بدأت قبل أن تبدأ الأنظمة السياسية الحديثة، وقبل أن ينهار جدار برلين، وقبل أن تتخلى الصين عن عزلتها. فهي توطدت، كما يقول الباحث الاقتصادي والاجتماعي الألماني أندري غوندر فرانك في العلاقات التجارية بين السومريين وحضارة وادي السند في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وكانت التجارة عبر طريق الحرير وسيلة لممارسة المبادلات الثقافية بين الحضارات على امتداد شبكته. وقد أسفرت حركة الأشخاص مثل “اللاجئين والفنانين والحرفيين والمبشرين واللصوص والمبعوثين” عن تبادل الأديان والفنون واللغات والتكنولوجيات الجديدة.

لقد ثبت بالبرهان أن العالم لا يستطيع أن يتحمل فاتورة غلق الحدود، والتنكر للعولمة. وذلك لسبب بسيط جدا، ولكنه رغم بساطته غاب عن أذهاننا، هو أن العولمة ليست أيديولوجيا نتبناها، مثلما تبنينا الرأسمالية، والشيوعية، وما بينها من تفرعات. العولمة نتاج طبيعي، لا نستطيع أن نوقفه، ولكن نستطيع توظيفه والتخفيف من آثاره التي قد تكون قاسية على البشر.

مغامرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وما نشهده من صراع مكتوم بين القوتين الأعظمين (الصين والولايات المتحدة)، والجائحة التي لم تتم السيطرة عليها بشكل كامل بعد، لن تنتهي بموت العولمة.

العولمة تُبدّلُ جلدها فقط؟

9