العودة إلى تطبيق نظام الأقاليم الثلاثة تثير سجالا في ليبيا

حسابات سياسية للقوى المهيمنة على المشهد الليبي تعيق مشروع اللامركزية.
الأربعاء 2025/03/05
ردود فعل غير متوقعة

أثارت دعوة عضو المجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني بالعودة إلى تطبيق نظام الأقاليم الثلاثة ضجة واسعة في ليبيا، بين من اعتبر الدعوة مقدمة لتقسيم البلاد وتفتيتها مطالبا بمحاكمته بتهمة "الخيانة العظمى"، وبين من يراها حلا واقعيا للأزمة التي تتخبط فيها ليبيا.

طرابلس - عاد السجال ليطغى على المشهد السياسي والإعلامي في ليبيا بعد دعوة عضو المجلس الرئاسي عن إقليم فزان موسى الكوني إلى العمل بنظام الأقاليم الثلاثة الذي كانت سائدا في البلاد مع بدايات تأسيس الدولة الوطنية في العام 1951 واستمر العمل به حتى العام 1963.

وتعرض الكوني إلى هجوم عنيف من قبل أطراف عدة وصل إلى حد اتهامه بالخيانة العظمى رغم أن المقترح كان إلى وقت قريب مطروحا على نطاق واسع سواء في شرق أو جنوب البلاد ولدى أنصار العودة إلى اعتماد النظام الملكي، وكذلك لدى من ينادون باعتماد النظام الفيدرالي على نطاق واسع ليتجاوز الأقاليم التاريخية الثلاثة إلى أقاليم جديدة وفق الخصوصيات الجغرافية والثقافية للمناطق والسكان المحليين.

وتحدث الكوني، الأحد الماضي، عن أهمية العمل بنظام الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان) بمجالس تشريعية مستقلة، لضمان تحقيق الاستقرار في كل مناطق ليبيا، وشدد الكوني خلال لقائه مع سفير المملكة المتحدة بطرابلس مارتن لونغدن، على أن العمل بنظام المحافظات كسلطة تنفيذية يضمن نيل كل مناطق ومكونات الشعب الليبي حقوقهم.

وتعتبر ليبيا خاضعة لنظام فيدرالي مشوه منذ العام 2014 مع انقسام البلاد الفعلي إلى إقليمين، أحدهما خاضع لسلطات طرابلس المعترف بها دوليا، والثانية تخضع لسلطة الجيش الوطني وتستمد شرعيتها من مجلس النواب الذي قام بتشكيل حكومة تابعه له تمارس مهامها في مناطق نفوذ الجيش.

حسن الصغير: إلغاء الفيدرالية أضعف المشهد السياسي، وخلق مركزية هشّة
حسن الصغير: إلغاء الفيدرالية أضعف المشهد السياسي، وخلق مركزية هشّة

وبرزت فكرة اعتماد النظام الفيدرالي بقوة بعد الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي في العام 2011 وخاصة من قبل ناشطين في إقليم برقة، ثم تم طرح الفكرة في إقليمي فزان وطرابلس على نطاق واسع، وأثارت من حولها جدلا واسعا بعد أن ربطها البعض بعودة النظام الملكي ورأى البعض الأخر أن الأمر لا يحتاج إلى ذلك، وإنما إلى اعتماد دستور 1951 مع إجراء تعديلات مناسبة عليه.

وبحسب مراقبين، فإن حديث عضو بالمجلس الرئاسي عن هذا المقترح يعني تبنيه من قبل المجلس الذي تم اختيار أعضائه خلال ملتقى الحوار السياسي في نوفمبر 2020 على أساس التوزيع الجغرافي، بحيث يتولى رئاسته محمد المنفي من إقليم برقة مع عضوين اثنين هما عبدالله اللافي عن إقليم طرابلس وموسى الكوني عن إقليم فزان.

ويشير المراقبون إلى أن مقترح العودة إلى النظام الفيدرالي مطروح منذ فترة من قبل مراكز دراسات ومؤسسات أكاديمية غربية متعددة وخاصة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، ويجد دعما من قبل قوى إقليمية ترى أن الوضع في ليبيا يحتاج إلى حل جذري وواقعي.

ويرى المراقبون أن مقترح العودة إلى النظام الفيدرالي الذي عرفته البلاد بعد استقلالها، يجد قبولا تلقائيا بين أغلب الليبيين وخاصة في ظل موجة واسعة من دعاة العودة الى دستور 1951، وقد يكون وحده القادر على الخروج بالبلاد من حالة الانقسام السياسي الحالي بإبقاء كل طرف على امتيازاته التي يتمسك بها على أن يتم التوافق على ايجاد الغطاء السياسي الشامل والذي قد يكون في إطار نظام جمهوري أو ملكي قادر على تأمين سيادة الدولة وعلاقاتها الخارجية وضمان وحدتها.

وكان النظام الفيدرالي استمر في ليبيا خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال، من 1951م إلى 1963 بعد ظهور إقليم برقة، ككيان مستقل ودولة منفصلة في عام 1949، بقيادة الأمير إدريس السنوسي حينها الذي أصبح في العام 1951 ملكا للبلاد في ظل اتحاد الأقاليم الثلاثة.

وأوضح الدبلوماسي السابق حسن الصغير أن اكتشاف النفط وبداية تصديره كانا عاملًا حاسمًا في تغيير المشهد السياسي الليبي، حيث وجدت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، أن التعامل مع حكومة مركزية أسهل وأقل تعقيدا من التعامل مع حكومات إقليمية تتمتع باستقلالية تشريعية. وبدلًا من الاحتكام إلى استفتاء شعبي يحدد مستقبل النظام السياسي، تم تمرير قرار إلغاء الفيدرالية عبر المجالس التشريعية، في ظل واحدة من أضعف الحكومات التي شهدتها المملكة الليبية آنذاك.

ولفت الصغير إلى أن أبرز النقاط التي يمكن الانتباه اليها هي الخلط الحاصل بين الفيدرالية والانفصال، حيث يرى أن هذا الالتباس ليس سوى نتيجة لقراءة سطحية للتاريخ أو لمصالح سياسية ضيقة. ففي حين أن الفيدرالية تعني توزيع السلطات بشكل عادل بين الأقاليم، إلا أن خصومها يروجون لفكرة أنها دعوة لتفكيك ليبيا.

مقترح العودة إلى النظام الفيدرالي مطروح منذ فترة من قبل مراكز دراسات ومؤسسات أكاديمية غربية متعددة

ووفق ما يراه الدبلوماسي السابق، فإن النظام الفيدرالي، لو استمر في ليبيا، ربما كان ليحول دون نجاح ما حدث في سبتمبر 1969، حيث أن تماسك الأقاليم عبر مجالسها التشريعية كان سيشكل سدًّا منيعا أمام أي محاولة استفراد بالسلطة. إلا أن إلغاء الفيدرالية أضعف المشهد السياسي، وخلق مركزية هشّة سهلت الطريق أمام التغيير الراديكالي، مردفا أن الفيدرالية ليست حلًا لمشاكل التنمية المكانية أو تحسين الخدمات، بقدر ما هي آلية لضمان التوزيع العادل للسلطة والموارد بين الأقاليم. الفيدرالية ليست مجرد تقسيم جغرافي، بل هي عقد سياسي ينظم العلاقة بين المركز والأطراف وفق توازن دقيق يحول دون هيمنة طرف على آخر.

ويجمع الليبيون على أن نظام القذافي نجح في ضمان وحدة وسيادة البلاد خلال فترة حكمه التي استمرت 42 عاما، لكن التناقضات الثقافية والاجتماعية ظهرت بقوة بعد اندلاع الأحداث الدامية في العام 2011 التي انطلقت شرارتها الأولى من إقليم برقة التاريخي الذي بقي لدى نسبة كبيرة من سكانها حنين للنظام الملكي وللملك الراحل إدريس السنوسي .

ويقول مناصرو النظام الفيدرالي انه نظام معتمد على نطاق واسع في العالم، وأن النموذج المعتمد في الولايات المتحدة مثلا أو في سويسرا يعتبر الأفضل عالميا، كما أن النموذج الإماراتي يمثل تجربة رائدة إقليميا ودوليا ويمكن البناء عليها في دولة مثل ليبيا.

ويرى هؤلاء أن ليبيا بحاجة إلى حكم محلي رشيد عبر نظام فيدرالي يحترم الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للمناطق، ويضمن توزيع الثروات بالتساوي، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها الليبيون.

الليبيون يجمعون على أن نظام القذافي نجح في ضمان وحدة وسيادة البلاد خلال فترة حكمه التي استمرت 42 عاما

ورأى سلامة الغويل رئيس مجلس حماية المنافسة المكلف من مجلس النواب أن الحديث عن تطوير الإدارة المحلية، وتوزيع الموارد بعدالة، وضمان حقوق المكونات والمناطق، أمر مشروع ويستحق النقاش، لكن تحويل هذا الحديث إلى مقترح لتقسيم السلطة التشريعية هو خطوة خطيرة لا يمكن قبولها بأي شكل من الأشكال، فالتشريع هو العمود الفقري لوحدة الدولة، وتقسيمه جغرافيًا يعني بشكل واضح تمهيد الطريق نحو تقسيم ليبيا إلى كيانات مستقلة متناحرة.

وتابع الغويل “لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار هذا الطرح مجرد إصلاح إداري أو خطوة لتحقيق الاستقرار، بل هو في جوهره ضرب لوحدة الدولة وتقويض للأسس التي قامت عليها ليبيا الحديثة منذ أكثر من سبعين عامًا. إن وجود تمثيل برلماني لكل المناطق والمكونات داخل مجلس تشريعي واحد هو الضامن الوحيد لوحدة القرار الوطني، وأي محاولة لتشتيت هذا القرار عبر سلطات تشريعية إقليمية هو إعادة إنتاج لسيناريوهات التقسيم التي لم تجلب إلا الفوضى والانهيار للدول التي جربتها.”

وخلال السنوات الماضية، تغيرت الكثير من المعطيات على الأرض بحيث سيطر الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر على اقليمي الشرق والجنوب التاريخيين وعلى مناطق مهمة من إقليم طرابلس، كما وضع يديه على مصادر الثروة النفطية وعلى الحدود الترابية مع النيجر وتشاد والسودان ومصر والجانب الأكبر من الحدود مع الجزائر، واتسعت طموحاته لبسط نفوذه على كامل مناطق البلاد.

ويبدي حفتر رفضا قاطعا للمساس بوحدة البلاد، لكن متابعين يرون أنه مستعد للموافقة على أي قرار يضمن له الاستمرار في السيطرة على مناطق نفوذه الحالية.

وينتمي عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني إلى إثنية الطوارق التي لديها امتدادات مهمة في جنوب ليبيا ودول الجوار كالجزائر والنيجر، وكانت له مواقف عدة مؤيدة للنظام الفيدرالي، ومن ذلك تأكيده خلال لقاء بعدد من زعماء الأحزاب السياسية، في العام 2022 على أهمية عودة العمل بنظام المحافظات باعتباره الحل الأمثل للأزمات التي تعانيها ليبيا، ومنها أزمة الانسداد السياسي، والجمود الذي خلفته لعدم توافق الأطراف السياسية على قاعدة دستورية تمهد الطريق لإجراء الانتخابات الرئاسية، وتشديده على أن نظام اللامركزية يضمن حقوق كافة مناطق ومكونات الشعب الليبي، من خلال المحافظات، بتسليمها ميزانياتها لإدارة مشاريعها، لكي تتفرغ الحكومة المركزية لأداء دورها في متابعة السياسة الخارجية وأمور الدولة، وتكليف شخصية اعتبارية على رأس كل محافظة، من خارجها، تمنح له كامل الصلاحيات لإدارة شؤونها.

حفتر يبدي رفضا قاطعا للمساس بوحدة البلاد، لكن متابعين يرون أنه مستعد للموافقة على أي قرار يضمن له الاستمرار في السيطرة على مناطق نفوذه الحالية

ويعتبر داعمو الكوني أنه تحدث علنا بما يتحدث به الكثيرون سرا، وأن الليبيين يعانون اليأس والاحباط من حالة بلادهم المسلوبة والمنهوبة والتي يسيطر عليها عدد من المتمسكين بمقاليد الحكم من ناهبي المال العام والعابثين بسيادة الدولة والمنفذين للأجندات الخارجية من أجل ضمان البقاء في كراسيهم.

وبات واضحا أن خارطة النفوذ العسكري والميداني الحالية كان لها دور مهم في الحملة التي يواجهها مقترح الكوني ، حيث أن سلطات شرق البلاد، وفي مقدمتها قيادة الجيش غير مستعدة للتفريط في أي شبر من الأراضي التي تسيطر عليها، وهي تعتبر أن ما يقع تحت يدها خاضع لسلطتها ولا يمكن المساومة بخصوصه وفق دستور 1951، ولكن يمكن بالمقابل التفاوض حول تقسيم فيدرالي وفق الخارطة الحالية مع ضمان وحدة فزان وبرقة وجزء من طرابلس في كيان واحد.

لكن هذا التصور يدفع بالكثيرين إلى الخوف من الدفع نحو تقسيم البلاد إلى دولتين: واحدة ثرية وقليلة السكان وممتدة المساحة في الشرق والجنوب، وواحدة فقيرة وكثيرة السكان في الغرب.

ورأى عضو مجلس النواب محمد العباني أن الكوني خالف قسمه القانوني الذي ألزمه بالمحافظة على استقلال ليبيا ووحدتها قبل توليه منصبه كنائب بالمجلس الرئاسي، ودعا النائب العام، إلى توجيه تهمة الخيانة للكوني، واعتبار تصريحاته جناية حنث باليمين تستوجب المساءلة القانونية الفورية، معتبرا أن على رئيس المجلس الرئاسي تعليق عضويته لانتهاكه الصلاحيات وخروجه عن الهدف الأساسي للمجلس المتمثل في حفظ الوحدة الوطنية.

وشن رئيس المؤسسة الوطنية للإعلام التابعة لحكومة مجلس النواب محمد عمر بعيو، هجوما عنيفا على مقترح الكوني، وقال “إن ذلك سيكون سبيلا جهنميا ليس لتنظيم ليبيا بل لتقسيمها وتفتيتها.”

في المقابل اعتبر الدبلوماسي الليبي، عبدالسلام أبوغالية، أن الانتقادات اللاذعة لعضو المجلس الرئاسي موسى الكوني تكشف عن تجذر ثقافة الرأي الواحد في مجتمعنا. بحسب تعبيره. وأضاف أن “الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها موسى الكوني عقب دعوته للفيدرالية تكشف عن مدى تجذر ثقافة الرأي الواحد في مجتمعنا،” مبرزا أن “الرجل عبر عن رأيه في النظام الذي يراه مناسب لليبيا من حيث شكل تكوينها الدستوري وخصوصا أنه ينتمي لإقليم مهمش وعانى من ويلات المركزية المقيتة لعقود طويلة،” بحسب قوله.

وكان 75 عضوا من مجلس الدولة الاستشاري بطرابلس وجهوا خطابا إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، اعتبروا فيه إن حل الأزمة الليبية يمكن «العودة إلى نظام الحكم الملكي الدستوري» بقيادة ولي العهد الأمير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي ، وطالبوا بـ«الاعتماد على دستور الجمعية الوطنية الليبية الذي وضعته وأقرته في جلستها المنعقدة بمدينة بنغازي يوم الأحد الموافق 7 أكتوبر 1951، والذي يعد دستوراً ساريًا ونافذا إلى يومنا هذا،» مستنتجين أن ذلك «هو الأمر الجامع الوحيد الذي ستتوافق عليه الأطياف المتصارعة كافة في ليبيا.»

وأشار الأعضاء الذين قالوا إنهم ممثلون عن مناطق غرب وشرق وجنوب ليبيا، إلى «تفاقم حالة الانقسام المؤسساتي ووصول الانسداد في العملية السياسية مستوى من التوتر أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، إذ أصبحت مؤشرات الفساد تشهد ارتفاعاً خطيرا، انعكست بشكل سلبي على قدرة المواطن الليبي على ضمان العيش الكريم.»

كما كان عدد من أعضاء اللجنة المشتركة للمسار الدستوري الداعمين للنظام الاتحادي، قد دعوا إلى إحالة دستور الاستقلال 1951 إلى مجلسي النواب والدولة “كأقصر الخيارات” لحل للأزمة الليبية، واقترحوا، في بيان وقع عليه 13 عضوا من اللجنة المشتركة تضم نوابا من المجلسين، أن يعرض للاستفتاء مشروع دستور 1951 غير المعدل مع مشروع الدستور المعدل من لجنة المسار الدستوري.

4