"العنيفون".. جناة أم ضحايا

لا يختلف إثنان على أن ما تعرض له ملعب الشهيد حملاوي في مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، أمرا منبوذا ومرفوضا في الشكل والمضمون. فأن يتحول مرفق رياضي بمقاييس عالمية أنفقت عليه الدولة أموالا ضخمة إلى رميم في لحظات معدودة، فذلك مؤشر اجتماعي خطير يطرح إشكالية تفاقم العنف والشغب كشكل من أشكال التعبير والاحتجاج.
الأمر الذي وقع ليس حدثا عابرا أو معزولا، فقد سبقته خلال هذا الموسم أحداث مماثلة أدت في بعض الحالات إلى تسجيل وفيات، ولذلك تحول العنف إلى مرادف للعبة الكرة المستديرة، ورغم أن الكل يندد ويستنكر إلا أن الظاهرة في تصاعد مطرد، إلى درجة أن دعا البعض إلى توقف هذا الدوري تماما ما دامت الأوضاع على هذا النحو.
الآن والقضاء يضرب بيد من حديد لتوقيف ومعاقبة الضالعين في تلك الأحداث، ماذا لو سئل أي منهم عن دواعي وأسباب ارتكابه لتلك الأفعال لرد بالقول: إنه ضحية تم التلاعب به، لكن ما دام القانون لا يحمي المغفلين فإنه هو الذي سيدفع الثمن.
على الأرض وعلى الورق وأمام الملأ هؤلاء هم من حولوا الملعب إلى رميم، لكن في الباطن من فعل ذلك يبقى بعيدا عن المساءلة لأنه لا دليل يوصل إليه، إلا مجموعة استنتاجات، فجناة ملعب حملاوي، هم ضحايا لوبيات وتجار المخدرات والمهلوسات الذين دمروا الشباب بسمومهم وحولوهم إلى كائنات بأجساد آدمية لكن لا عقول لهم.
هم ضحايا فوضى التنمية وقساوة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتخاريف الاجتماعية، التي حرمتهم من كل أشكال الترفيه والتسلية والاستمتاع بالحياة، ولم تبق لهم إلا ملاعب الكرة لإخراج تلك الشحنات المتراكمة من الغضب والرغبة في التنديد بالواقع الذي يعيشونه.
هم ضحايا خطاب إعلامي وإلكتروني ولوبيات رياضية ومالية تتخفى وراء منابر وتشتغل وراء الستار لتحريض هؤلاء على تصفية حسابات ظاهرها رياضي، لكن باطنها عنصري وجهوي ونشر لخطاب الكراهية وضرب التماسك الاجتماعي.
العنف هو درجة متقدمة من التعبير والاحتجاج على وضع معين، بما يعني أنه كان بالإمكان الاستماع إلى هؤلاء وفهم نوازعهم قبل الوقوع في المحظور، لكن الظاهرة
في استشراء مطرد، ولم تعد مرادفة لكرة القدم فقط، بل تعدته إلى فئات اجتماعية مختلفة، وإلا لما تحول خلاف حول حقوق ركن سيارة في حضيرة غير شرعية إلى جريمة قتل، طرفاها واحد في المقبرة والآخر في السجن.
ما يقلق حقا أن العنف أو “العنيفين”، باتوا عملة متداولة ومطلوبة لتحقيق بعض الغايات، في ظل انحدار لغة الحوار ومنطق القانون والحجة، فلا يخلو مثلا أي من مؤتمرات الأحزاب السياسية من تلك الأشكال التي يؤتى ويدفع لها من أجل فرض أمر معين لصالح هذا أو ذلك.
تحضرني في هذا الشأن، أن قياديا كبيرا في حزب كبير جند كتيبة من مفتولي العضلات لمضايقة خصومه، ولما لم تبق إلا المنصة لعزله من المؤتمر ومن المنصب كلية، لجأ أفراد الكتيبة لإطلاق قنابل دخانية فرقت الجميع وأبقت على الرجل زعيما للمؤتمر وللحزب.
هكذا يتربى العنف و”العنيفين” وتتم رعايتهم، وهم هكذا طبقات وأشكال منهم من يمارس هوايته في الشارع والآخر في الملعب والآخر في أروقة السياسة، فهل هم جناة أم ضحايا؟.