"العملاق الموارى" عالم غارق في ضبابية النسيان

منذ صدور روايته “بقايا النهار” في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، التي فازت بجائزة “البوكر” البريطانية الرفيعة، وحوّلت إلى فيلم ناجح من قبل المخرج جيمس إيفوري، وقد لعب فيه دور البطولة كل من أنطوني هوبكينس وإيما طومسون، يحتل الكاتب كازيو إيشيغورو مكانة بارزة في الأدب الإنكليزي المعاصر، جاعلا من الحفر في الذاكرة تقنية مميزة في الكتابة الروائية.
الذاكرة العميقة
لقد ولد كازيو إيشيغورو في مدينة ناكازاكي اليابانية عام 1954. وكان في الخامسة من عمره لما انتقلت عائلته للعيش في بريطانيا حيث عمل والده في مجال علم المحيطات الذي كان متخصصا فيه بدرجة عالية.
في البداية كان الطفل يتكلم مع والديه بلغته الأم، وكان يحب أن يتوحد بنفسه أحيانا ليعيش ذكريات الماضي، مستحضرا صورة جدّه التي لم تكن تفارقه أبدا. وهو يقول “كنت أكبر، وكانت ذكريات السنوات الأولى من طفولتي تصبح شيئا فشيئا دعائم عالم داخلي تغذيه الألعاب والكتب المخصصة للأطفال والتي كان يرسلها جدّي، أو الأفلام التي أنجزت في اليابان عند ولادتي، خصوصا أفلام أوزو. وكنت أعتقد أن إقامتنا في بريطانيا ستكون مؤقتة. لكن عند بلوغي سن الخامسة عشرة، بت متيقنا أنني لن أعود إلى اليابان (…). وعند بلوغي سن العشرين، كنت قد أصبحت متمكنا من اللغة الإنكليزية، بدأت أتساءل عن مصير ذلك العالم الثري الذي كنت قد امتلكته في طفولتي من خلال ذكريات الماضي. وبعد تفكير عميق قررت أن أجعل من هذا العالم عنصرا أساسيا في كتاباتي. وهكذا أصبحت كاتبا بهدف الاحتفاظ بذكريات طفولتي”.
لم يستعمل كازيو إيشيغورو ضمير الأنا في رواية 'العملاق الموارى' لسرد الأحداث، ولم يركز فيها على شخصية معينة مثلما فعل في 'بقايا النهار'
وتحضر الذاكرة بقوة في جل أعمال كازيو إيشيغورو الروائية. ففي “بقايا النهار”، يقوم كبير الخدم المدعو ستيفنس بالعودة إلى فصول حياته الماضية، ليقف على حقيقة جارحة، تتمثل في أن حياته لم تكن غير سلسلة من الخيبات المرة، بل إنه لم يتمكن حتى من أن يعيش قصة الحب البديعة التي توفرت له في شبابه.
وفي رواية “فنان في عالم طاف”، يقوم فنان يجد نفسه مرفوضا من قبل المجتمع الياباني، بعد الحرب الكونية الثانية بسبب موالاته السابقة للنظام الإمبراطوري، باستعراض ماضيه الموسوم بخيانته لأقرب الناس إليه، والوشاية بهم.
عالم في الضباب
ويضيف: أنا أعتقد أن لبس الذاكرة وذاتيتها يوفران حرية فنية. فنحن باستطاعتنا أن نكتب مثلما يقوم فنان حديث باستعمال الكولاج، وذلك بوضع مشهد قديم يعود إلى ثلاثين سنة مضت، بجانب مشهد آخر ليس بعيدا زمنيا.
|
وهذا ما قام به الكاتب في روايته الجديدة “العملاق الموارى” التي أصدرها بعد انقطاع عن الكتابة استمر عشر سنوات. ولم يستعمل كازيو إيشيغورو ضمير الأنا في هذه الرواية لسرد الأحداث، ولم يركز فيها على شخصية معينة مثلما فعل في “بقايا النهار” على سبيل المثال لا الحصر، بل عمد إلى إضفاء نوع من الضبابية على مجمل فصولها، ضبابية تغطي البلاد بأسرها، وتجعل كل الشخصيات مصابة بفقدان الذاكرة.
لذلك يمكننا أن نقول بأن الكاتب مرّ من الضباب المجازي إلى الضباب الحقيقي. ويقول كازيو إشيغورو إنه أراد من خلال روايته “العملاق الموارى” أن يبرز العمل الذي يمكن أن تقوم به الذاكرة الجماعية في مجتمع معين. لذلك نحن نجد أنفسنا أمام عالم غارق في ضبابية فقدان الذاكرة بحيث تصبح الشخصيات في حيرة من أمرها. وهي لا تدري أن يكون فقدان الذاكرة الجماعية سببا في نسف العلاقات العاطفية بينها.
وعندما تسعى هذه الشخصيات إلى استحضار ذكريات الماضي، تصطدم بعقبات أخرى تتمثل في أن مثل هذه الذكريات يمكن أن توقظ ضغائن قديمة، وتؤجج مشاعر الكراهية التي ظلت مدفونة حتى ذلك الحين. ويقول كازيو إيشيغورو: قبل أن أشرع في كتابة “العملاق الموارى”، فكرت في فرنسا بعد الحرب الكونية الثانية وأيضا في أفريقيا الجنوبية بعد “الأبارتايد” حيث كان لا بد من إيجاد توازن دقيق بين واجب الذاكرة وبين ضرورة غض الطرف عن نزاعات الماضي من أجل الحفاظ على السلم.
ويضيف الكاتب: كما فكرت أيضا في يوغسلافيا وفي رواندا بعد المجازر الرهيبة التي ارتكبت فيها. لنتصور هذا البلد الصغير الذي بدأ الناس يعيشون فيه جنبا إلى جنب. ساعي البريد أو البقال الذي قتل أختك، أو أخاك، أو والدك، وعليك أنت أن تتصرف كما لو أن شيئا من هذا لم يحدث. ما عاشته هذه البلدان وما تعيشه راهنا يهمني كثيرا، وهذا ما حاولت إبرازه في “العملاق الموارى”.