العلاقات العاطفية بين الروبوتات والبشر ستكون حقيقة بعد عقدين

قد يبدو للبعض أن العلاقات العاطفية بين البشر والروبوتات مجرد خيال علمي، بينما هي حقيقة ستثبتها السنوات القليلة القادمة، ممهدة لانقلاب جذري في تاريخ الإنسان، لكن هذه المسألة تطرح سؤالا صريحا حول قدرة الروبوتات على أن تكون لها مشاعر وانفعالات، تلك التي تحكم عادة علاقات البشر ببعضهم البعض.
يرى الرومانسيون أن البشر يتعين عليهم الاختيار بين اتباع ما تمليه عليهم انفعالاتهم وما يمليه عليهم المنطق، والحكماء من يختارون اتباع قلوبهم بدلا من عقولهم. ورأوا أن العودة إلى حالة البراءة تقضي أن يصغي المرء إلى مشاعره بدلا من استشارة المنطق. من ثمّ فإن الشعر وليس العلم هو القادر على الكشف عن تلك الأسرار المخبوءة وراء المشاعر.
الكاتب والأكاديمي البريطاني ديلان إيفانز في كتابه “الانفعال: مقدمة قصيرة جدا” لا يعتقد أن الانفعالات تتعارَض في جوهرها مع العقل، ولا أن علينا دائما اتباع ما تمليه قلوبنا بدلا من عقولنا.
الروبوتات والمشاعر
في الكتاب، الذي ترجمته الكاتبة أمنية طلعت وصدر عن مؤسسة هنداوي، يدعو إيفانز إلى العودة لتبني الرأي القائل بأن الانفعالات هي حليف العقل، وليست عدوا له. ويعالج العديد من القضايا التي ترتبط بالانفعال. انطلاقا من رؤية الفلاسفة والمفكرين والأدباء لمفهوم مصطلح الانفعال ثم علاقة العقل والقلب، ويتوقف عند إرثنا المشترك من الانفعالات يربط بين أفراد البشرية جمعاء على نحو يتجاوز الاختلافات الثقافية.
ويتوقف عند القضية الأبرز وهي مستقبل العلاقة بين الروبوت والانفعال، حيث يلفت إلى أن مجال الحوسبة الوجدانية قطع شوطا كبيرا منذ العمل الرائد الذي أنجزته سينثيا بريزيل وجانيت كان. وصار لدينا اليوم مجموعة كاملة من الروبوتات التي تظهر تعبيرات انفعالية. وعلى غرار كيسمت، غالبا ما تكون هذه الروبوتات مبرمجة على إظهار مجموعة محددة من التعبيرات الانفعالية. فيبدأ المبرمجون بتحديد قائمة من الانفعالات التي يرغبون في أن يحاكيها الروبوت. وهذا يعني أنهم يعتمدون عادة نهجا فئويا في تصنيف الانفعالات. ثم يصمم المهندسون تعبيرات مميزة لكل انفعال على حدة.
محاولات بناء أشكال حياة اصطناعية، مادية ومن المحاكاة، لديها انفعالات قد تساعدنا على فهم جوانب أخرى من انفعالاتنا
ويوضح أنه يمكن استخدام الآلات التي تحاكي التعبيرات الانفعالية في أغراض أخرى متنوعة. مثلا يمكنها مساعدة الأطفال المصابين بالتوحّد. فقد طورت شركة لوكس إيه آي، المنبثقة عن جامعة لوكسمبورغ، روبوتا يقال إنه يعزز استعداد الأطفال المصابين بالتوحد للتفاعل مع المعالجين البشريين، ويقلل من شعورهم بالانزعاج أثناء جلسات العلاج.
تقول عايدة نزاريخورام المؤسسة المشاركة للشركة “عندما تتفاعل مع شخص آخر، فإنك تقوم بالعديد من الإشارات الاجتماعية، مثل تعبيرات الوجه ونبرة الصوت وحركة الجسد، التي تشكل عبئا مرهقا على الأطفال المصابين بالتوحد وتشتت انتباههم. لكن الروبوتات تتمتع بالقدرة على تبسيط كل شيء. مثلا، في كل مرة يقول فيها الروبوت كلاما ما أو يؤدي مهمة ما، فإنه يفعل ذلك بالضبط كما فعلَه في المرات السابقة دون أي اختلاف، مما يبعث في الأطفال المصابين بالتوحد شعورا بالراحة”.
وقد تستخدَم أيضا الروبوتات التي تظهر تعبيرات انفعالية كمرافقين اصطناعيين لكبار السن. فقد تَوصل أخصائيو الشيخوخة إلى أن الحيوانات الأليفة ـ خاصة تلك التي تظهر مجموعة من الانفعالات مثل القطط والكلاب ـ تساهم في الوقاية من الاكتئاب لدى كبار السن. والحيوانات الأليفة الإلكترونية، مثل الكلب الروبوتي “آيبو” الذي تنتجه شركة سوني، قد تحقق تأثيرات مفيدة مماثلة. كما يطور الباحثون حاليا روبوتات شبيهة بالبشر قد تحقق إرضاء أكبر كرفقاء. ومع تطور الروبوتات الشبيهة بالبشر عن أي وقت مضى، أطلق البعض تخمينات بأن العلاقات مع الرفقاء الآليين قد تصبح في يوم من الأيام أكثر إرضاء من العلاقات مع البشر.
يحاجج العالم البريطاني ديفيد ليفي في كتابه “الحب والجنس مع الروبوتات” بأن ذلك النوع من العلاقات سيصبح مألوفا بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. ويتنبأ بأن الكثير من الأشخاص سيتزوجون بالروبوتات ويمارسون الجنس معها. يذكر ليفي في كتابه: “سيكون تبادل مشاعر الحب مع الروبوتات أمرا طبيعيا بقدْر تبادلها مع البشر؛ وستتسع الأفعال الجنسية والوضعيات الحميمية التي يمارسها البشر، إذ ستعلمنا الروبوتات أكثر مما هو موجود في جميع الكتيبات الإرشادية المنشورة عن الجنس في العالم مجتمعة.”
لكن هذا الرأي لا يتفق معه الجميع. فعلاقة الحب غالبا تنطوي على الاعتقاد بأن شريكك قد اختارك بمحض إرادته، ومن ثَم فإنك تكون معرّضا للرفض. وعلى الرغم من أن الناس ينشدون عادة الالتزام والوفاء من شركائهم، فإنهم يفضلون أن يكون هذان المَطلبان نابعَين من اختيار متجدد، وليس من أنماط سلوكية ثابتة. ومن غير المرجح أن تتمكن الروبوتات من تقديم ذلك. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيرى أن الروبوتات الجنسية لها أضرار جسيمة.
تحذر كاثلين ريتشاردسون من أن تطوير الروبوتات الجنسية سيعيق تطور العلاقات الإنسانية القائمة على المواجدة، ويعزز العلاقات التسلّطية القائمة على اللامساواة والعنف. ولهذا شنت ريتشاردسون حملة ضد الروبوتات الجنسية لمحاربة التطبيع مع فكرة اتخاذ الروبوتات الجنسية شريكا حميميا بدلا من النساء.
ويتساءل إيفانز هل يمكن أن تمتلك الروبوتات مشاعر؟ ويلفت إلى أن فكرة إمكانية اختبار الروبوتات لمشاعر حقيقية تعد إحدى الأفكار الثابتة في مؤلفات الخيال العلمي. ففي فيلم “عداء النصل”، يستاء روبوت شبيه بالبشر حينما يكتشف أن ذكرياته غير حقيقية، وأن مبرمجه هو من زرعَها في دماغه الاصطناعي. أما في فيلم “رجل المئتي عام”، فيلعب روبن ويليامز دور روبوت يعيد تصميم دائرته الكهربائية بحيث تسمح له باختبار مجموعة كاملة من الانفعالات البشرية.
أحد الأسباب التي تجعل تلك القصص مؤثرة هو أن المشاعر تعَد غالبا أحد الفروق الرئيسية بين البشر والآلات. فالمشاعر تستلزم إدراكا واعيا، ويشكك كثيرون في إمكانية تصميم آلات واعية. قدمت بعض الحجج لدعم هذا الاعتقاد الحدسي، لكن هذه التجارب الفكرية ـ مثل الغرف الصينية والزومبي ـ غالبا ما تتضمن افتراضات مشكوكا فيها بدرجة كبيرة. والحقيقة هي أنه حتى ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين، لا أحد يملك بعد فكرة واضحة ومحددة عن ماهية الوعي. وفي ضوء غياب أفكار واضحة عن الوعي، والاختلاف على كيفية دراسته، يجب النظر في مزاعم استحالة تحقق الوعي الذاتي لدى الآلات بشيء من التحفّظ.
حياة اصطناعية
يضيف أن إحدى الأفكار القليلة الواضحة عن الوعي، هي أن المشاعر الشخصية تعتمد اعتمادا كبيرا على نوع جسم صاحبها. إذا كان هذا صحيحا، فإن الروبوتات الانفعالية ذات الأجسام البلاستيكية أو المعدنية ستشعر بإحساسات داخلية مختلفة تماما عن البشر المخلوقين من لحم ودم. فالمواجدة ليست ممكنة إلا بين الكائنات التي تشترك في مخزون انفعالات واحد، ومن ثَم قد لا تشعر الروبوتات، التي تختلف مشاعرها عن مشاعرنا، بالمودة والتعاطف تجاه البشر.
تزخر أعمال الخيال العلمي بقصص عن الذكاء الاصطناعي المعادي للبشر. ففي فيلم “المدمر”، يصبح الكمبيوتر العملاق المعروف باسم “سكاي نت” واعيا بذاته ويحاول منع البشر من إيقافه عبر السيطرة على نظام القيادة العسكرية وإطلاق صواريخ نووية. فهل ستؤدي الحوسبة الوجدانية في نهاية المطاف إلى معركة بين البشر والآلات؟ وإن حدث ذلك، فمَن سينتصر؟ ربما يأتي يوم لا تصبح فيه الروبوتات لعبة بين أيدينا، بل نحن الذين سنصبح لعبتهم.
قد يصبح بإمكاننا تجنّب هذا المصير المظلم من خلال برمجة أجهزة الكمبيوتر لتكون خاضعة لنا. مثلا، يمكننا برمجتها على اتباع “القوانين الثلاثة للروبوتات” التي اقترحها إيزاك أزيموف في روايته القصيرة “رجل المائتي عام”، والتي استوحي منها الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه. لكن إحدى السمات المهمّة للعديد من الانفعالات هي أنه يصعب التنبؤ بها. وهذا يعني أن الروبوت ذا الانفعالات الحقيقية قد يقرر عدم الامتثال لتلك القوانين أو قد يعيد تفسيرها. ومثلما نشهد اليوم تزايدا في احترام حقوق الحيوانات بناء على إقرارنا بأن الكائنات غير البشرية تشعر بالألَم والانفعالات مثلها مثل البشر، فقد نتوقع أيضا أن نشهد تزايدا في احترام حقوق الروبوتات بناء على الأسس نفسها. ومثلما يبدي البعض استعدادا لاستخدام وسائل عنيفة من أجل الدفاع عن حقوق الحيوانات، قد يتحد البعض الآخر مع الروبوتات المضطهدة لتحريرها من عبوديتها.
يقول إيفانز “قد تعتقد أن أجهزة الكمبيوتر يمكن دائما التنبؤ بها؛ إذ كل ما تفعله هو اتباع برنامج معين. والفكرة نفسها هي ما تدفع البعض إلى رفض فكرة أن أجهزة الكمبيوتر قد يكون لديها انفعالات يوما ما. فحتى لو صممنا برامج ذكية تسمح للحواسب بمحاكاة سلوك انفعالي، لن تصبح هذه الانفعالات حقيقية؛ لأنها ستتبع التعليمات فحسب. ولن يكون من الصعب التنبؤ بسلوك أجهزة الكمبيوتر، على عكس الكائنات الحية التي تتمتع بانفعالات حقيقية. إذن، ماذا عن أجهزة الكمبيوتر التي تطور برامجها الخاصة بنفسها؟”
قد تمتلك مثل هذه الآلات انفعالات حقيقية خاصة بها دون أن يكون للبشر يد في تصميمها. ثمة فرع من علم الكمبيوتر يسمى “الحياة الاصطناعية”، تُجرى فيه تجارب على هذا النوع من البرمجيات التي تتطور ذاتيا. فبدلا من أن يكتب علماء الكمبيوتر المتخصصون بمجال الحياة الاصطناعية البرامج بأنفسهم، يقومون بتوليد سلسلة عشوائية من التعليمات البرمجية، ثم يسمحون لهذه البرمجيات المصغرة (التي تعرَف باسم الخوارزميات الجينية) بالتنافس على مساحة في القرص الصلب للكمبيوتر. ويسمَح للبرامج التي تحقق أداء أفضل بنسْخ نفسها وشَغْل مساحة أكبر من الذاكرة، في حين تحذف البرمجيات التي تحقق أداء ضعيفا.
لكن صممت عملية النسخ بحيث تكون غير مثالية عن قصد، فتسمح بوقوع أخطاء عرضية. وتؤدي مثل هذه الأخطاء إلى ظهور برمجيات متطفرة أو متحوّرة يصبح بعضها أفضل في أداء المهمة المطلوبة مقارنة بالبرامج الأصلية، فتسيطر بذلك على مساحة القرص الصلب. وإذا تكررت هذه العملية عبر عدة أجيال، تتراكم البرامج المتحورة المفيدة مما يؤدي لجعل البرامج فعالة إلى درجة لم يكن لإنسان أن يصل إليها بطرق التصميم العادية.
البعض يخمّن بأن العلاقات مع الرفقاء الآليين قد تصبح في يوم من الأيام أكثر إرضاء من العلاقات مع البشر
ويشير إلى أن برامج الحياة الاصطناعية صممت لتحاكي عملية التطور عبر الانتخاب الطبيعي. إذ تتوفر فيها جميع العناصر الأساسية: الوراثة (حيث تنسخ البرامج نفسها)، الطفرات (فالنسَخ ليست متطابقة)، والتضاعف التفاضلي (إذ تنتج بعض البرامج نسَخا أكثر من غيرها). ويبرز الاسم الاصطلاحي لهذه البرامج الذاتية التطور ـ الخوارزميات الجينية ـ أوجه التشابه بينها وبين عملية التطور القائمة على الحمض النووي. ولا يهم إذا كان ما يتطور هنا هو سلسلة من الشفرات على قرص صلب أو نيوكليوتيدات في الكروموسوم. فمثلما يعَد من ضيق الأفق إنكار قدرة أجهزة الكمبيوتر على امتلاك انفعالات لمجرد أنها تفتقر إلى أدمغة طبيعية، فإن إنكار قدرتها على التطور لمجرد أنها تفتقر إلى الحمض النووي يعَد ضيق أفق أيضا.
إن جوهر جميع العمليات البيولوجية ـ بدءا من الانفعالات والتطور وصولا إلى الحياة نفسها ـ لا يكمن في المواد التي تتكون منها، إنما في سلوك هذه المواد. وطالما أن البرامج قادرة على نسْخ نفسها، وأن بعض هذه النسَخ لا تكون متطابقة، وطالما أن عدد النسَخ يعتمد على خصائص معينة في البرنامج نفسه، فيمكن القول بحق إنها تتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي.
تضمنت إحدى أشهر التجارب في مجال الحياة الاصطناعية إنشاء عالَم افتراضي يعرَف باسم “تيرا”. بدأ عالم “تيرا”، الذي صممه عالم الكمبيوتر توماس راي، بنسَخ من برنامج واحد. ومثلما وصفنا في الفقرات السابقة، كان لهذا البرنامج القدرة على نَسْخ نفسه تلقائيا؛ أي إنه كان “خوارزمية جينية”. ونظرا لأن هذه النسَخ لم تكن متطابقة دائما، أصبح عالَم “تيرا” بمرور الوقت ممتلئا بأنواع متنوعة من الكائنات الرقمية. وبينما كان توماس راي يراقب تطور بيئته الحيوية الافتراضية، أبهرته ملاحظة ظهور أشكال حياة غير متوقعة، بالإضافة إلى فايروسات افتراضية وأجسام مضيفة طورت أنظمة مناعية اصطناعية للدفاع عن نفسها. لم تصل هذه الأشكال من الحياة الاصطناعية إلى حد اكتساب الانفعالات، لكن ليس صعبا أن نتخيل أنها قادرة على اكتساب مثل تلك القدرات إذا أتيحت لها فترة زمنية كافية. وفي ضوء عشوائية عملية التصميم، قد تصبح تلك الانفعالات الاصطناعية غير متوقعة على الإطلاق.
ويؤكد إيفانز أن محاولات بناء أشكال حياة اصطناعية لديها انفعالات، سواء كانت برامج فاعلة افتراضية في عالَم محاك أو روبوتات لها وجود مادي حقيقي، قد تساعدنا على فهم جوانب أخرى من انفعالاتنا. يقول عالم الأعصاب الإيطالي فالنتينو برايتنبرج إنه من الأسهل غالبا اكتشاف كيفية عمل نظام معقد من خلال بناء نماذج بدلا من محاولة استنتاج الآلية من خلال الملاحظة فقط. وكلما زاد التوافق بين سلوك النموذج المحاكي وسلوك النظام المستهدف، زادت ثقتنا في أن البنية الداخلية للنموذج تتطابق مع البنية الداخلية للنظام المستهدَف. ونظرا لأننا مَنْ قمنا ببناء النموذج بأنفسنا، فإن بنيته الداخلية واضحة لنا ولا تحتاج إلى استنتاجها من خلال التحليل. ومن ثَم، قد يكون السبب الأهم لبناء الروبوتات الانفعالية هو تعلّم المزيد عن أنفسنا.