العقيدة الدينية للأبناء معضلة الأسر العربية في مجتمعات رقمية مفتوحة

التنمية الروحية للطفل تدربه على فعل الخير وتبعث في نفسه الطمأنينة عند الكبر.
الأحد 2020/10/25
تنشئة الطفل على ثقافة التسامح

لا يستوعب الطفل في مراحل عمره الأولى معنى العقيدة الدينية، لكنه في حاجة ماسة إلى تنشئة روحية متوازنة تدربه على السلوك القويم والتحلّي بالأخلاق والقيم الحسنة، ويشعر من خلالها بالسكينة والطمأنينة في مراحل متقدمة من الحياة رغم ما تكتنفه حياته من صعوبات وتقلبات.

ترغب معظم الأسر المسلمة في أن يترعرع أبناؤها على تعاليم الدين الإسلامي منذ مراحل مبكرة من أعمارهم، حتى يشبون على الإيمان والالتزام بالعقيدة.

ويقوم العديد من الآباء بدور فعال في التنمية الروحية لأطفالهم من خلال اصطحابهم إلى المسجد وتشجيعهم على الصلاة وحفظ القرآن والدعاء.

ويعد التعليم الديني عنصرا مهما في المناهج التعليمية للعديد من المدارس الابتدائية والمعاهد الثانوية، وتدخل هذه الدروس في المقرر الدراسي إلى جانب العلوم والرياضيات واللغات والتاريخ والجغرافيا والفلسفة.

ومع ذلك، تشكل المدارس القرآنية والكتاتيب نماذج براقة لبعض الأسر المحافظة التي تخير إلحاق أطفالها بها، من أجل تعميق معارفهم الدينية، وتنشئتهم على السلوك القويم والتحلّي بالأخلاق والقيم الحسنة.

ومثلت الكتاتيب في المساجد لعقود طويلة فضاء تثقيفيا هاما لتعلم اللغة والخط العربييْن، قبل أن تكون أمكنة لتعلم أصول الدين، إذ كانت تمثل أولى خطوات الأطفال في أبجديات المعرفة وطريقها، ألا وهي اللغة.

بدري المدني: لنعلم أولادنا قرآنا نورانيا يبث الحياة في نفوسهم ويبني الأجيال
بدري المدني: لنعلم أولادنا قرآنا نورانيا يبث الحياة في نفوسهم ويبني الأجيال

ويؤكد أخصائيون أن للكتاتيب دورا هاما في نشر ثقافة التسامح ونبذ العنف والتشدّد لما تكتسيه مرحلة ما قبل الدراسة من أهمية في تربية الناشئة على نبذ كل أشكال التطرّف.

وتقول نادية الجبالي (أم لثلاثة أطفال) “يواضب زوجي على الصلاة مع أبنائي الصغار حتى يكون لهم قدوة في هذا المجال ويغرس في قلوبهم بذرة الإيمان، فيصبحون أكثر تعلقا بهويتهم الإسلامية”.

وأضافت “إذا لم يعمل الآباء على تعليم أبنائهم التعاليم الصحيحة لدينهم ومبادئه، وخصوصا في عصرنا الحالي المليء بالتحديات، فإنهم سيصبحون عرضة إلى الاستقطابات الدينية ولأيديولوجية وهي إشكالية كل المجتمعات اليوم التي أصبح فيها الكثير من الشبان يتبعون سلوكيات معادية للمجتمع، حيث تُرتكب جرائم إرهابية وتُنفذ عمليات قتل جماعي للأبرياء”.

وشدد الخبراء على أهمية التنمية الروحية أو الدينية للأطفال لما تمنحه لهم على المدى الطويل من طاقة إيجابية مفيدة للجسم والدماغ والروح، وتبعث في أنفسهم السكينة والطمأنينة، رغم ما قد تكتنفه حياتهم من تحديات ومصاعب.

لكن ثمة تحديات كبيرة في العصر الحالي تعيق التنمية الروحية الجيدة، وهي المجتمعات الرقمية مفتوحة الحدود، وتحوّل نسبة كبيرة من المدارس القرآنية إلى بيئات خصبة لنشر الأفكار المتطرفة والمتشدّدة.

وفي السنوات القليلة الماضية أثار هذا الأمر جدلا كبيرا في عدد من الدول العربية التي تواجه ظاهرة الفكر المتشدد.

وفي دول مثل المغرب وتونس والأردن اضطرت وزارات التعليم إلى إصلاح مقررات مناهجها الدراسية بالتعديل والحذف ومراجعة بعض مواد التربية الإسلامية التي من شأنها أن تحض على التفسير المتشدد للنصوص القرآنية.

وكانت جهات متطرّفة قد أحكمت سيطرتها على أغلب الكتاتيب التابعة للمساجد في تونس بعد أن تمكنت من السيطرة على دور العبادة مستغلة حالة الارتباك الأمني والمؤسساتي التي عصفت بالبلاد بعيد ثورة يناير 2011.

للكتاتيب دورا هاما في نشر ثقافة التسامح
للكتاتيب دورا هاما في نشر ثقافة التسامح 

وقال الخبير في التنمية الذاتية والإحاطة النفسية واستشاري العلاقات الزوجية، شكري العياري، لـ”العرب” إن “الجانب الروحي بمستوياته العقدية والتعبدية والأخلاقية من أقوى الجوانب في تربية الطفل وزرع القيم الكونية لديه وتنشئته على المبادئ الإسلامية القيّمة”.

واستدرك مضيفا “لكن قد يرافق هذه التنشئة الدينية نوع من المغالاة في فهم الدين وتأويل نصوصه المقدسة ما يؤثر سلبا على توازن الطفل النفسي ويجعله يتبنى مواقف ورؤى لا علاقة لها بمرحلة الطفولة أو بالبعد الرمزي للمواقف والأشخاص والغيبيات”.

وأكد العياري أن الطفل قبل 6 سنوات لا علاقة له بالبعد الرمزي والغيبي للمقدسات، لأن ذهنه غير قادر على إدراك أو فهم الغيبيات المجردة، لذلك من المستحسن عدم تلقينه أشياء دينية مقدسة ومجردة، منوها إلى أهمية تحفيظه القرآن دون الدخول في التأويل والتفسير والجنة والنار لأنها مفاهيم أكبر من قدرته على الإدراك والفهم.

ودعا إلى ضرورة أن تكون التربية الروحية للطفل متوازنة وتراعي قدرات الطفل الذهنية والنفسية والسلوكية قائلا “يجب أن نجتهد في تنمية قيم كونية فاضلة تمرر كسلوكات يومية كالصدق والأمانة والإخلاص دون تشطيط أو شطط، فخير الأمور الوسط والإسلام يظل دين اعتدال وتوازن”.

شكري العياري: الطفل قبل 6 سنوات لا علاقة له بالبعد الرمزي والغيبي للمقدسات
شكري العياري: الطفل قبل 6 سنوات لا علاقة له بالبعد الرمزي والغيبي للمقدسات

وأوضح العياري قائلا “يمكن أن يقتصر دور المدارس القرآنية على التحفيظ والترتيل والتجويد لأن في ذلك مردود مهم لتقوية ذاكرة الطفل دون التأويل والتفقه في الدين، مع ضمان اضطلاع الهيئة الرقابية العلمية والتفتيشية البيداغوجية بدورها حتى لا تحيد هذه المؤسسات عن دورها العلمي”.

ومن جانبه يرى الشيخ بدري المدني الباحث في الفكر الإسلامي أن الطفل في حاجة لكلّ بذرة معرفية تصقل شخصيته وتوسع مداركه وتغذي عطشه لاكتشاف الحياة.

وقال بدري لـ”العرب” إن “الطفل في مختلف مراحل عمره في حاجة إلى اللعب والغناء والحركة والرقص والموسيقى والعلم والمطالعة والتواصل مع المحيطين به، وجميعها آليات ضرورية لتوسيع مداركه وفتح أبواب الاستطلاع أمامه، وكذلك يعد غرس حب القرآن والتربية الدينية في نفوس الأطفال وتعليمهم تلاوته وتجويده وحفظه وفهم بعض معانيه بناء على مدى قدرتهم الذهنية على التركيز وفهم القيم الأخلاقية له والعمل على تقريبها لهم عبر أشكال الرسم والتلوين والترفيه والمسابقات”.

وأضاف “من المهم التدرج في تحفيظ الأطفال السور القرآنية وجعلهم يحسون بالسعادة، مدفوعين بالطاقة والرغبة وتقريبهم إلى الخالق بشكل مبسط يشعرهم بالتوازن المنشود، لكن ما نحذر منه هو إهمال هذا الجانب في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا هي الحاكم بأمره داخل معظم البيوت، إذ لا يجب أن نترك الرقمنة تقتل الصلة الروحية بين الدين والطفل”.

وختم الشيخ بدري حديثه مشددا “نحذر من جهة أخرى من فقاقيع بعض المدارس التي تسمي نفسها بالقرآنية وهي تفرخ أطفالا متشددين، وبسبب هروبها من الرقابة القانونية صارت كالمحتشدات ذات التوجه الإرهابي الطامس لقدرات الطفل والمعطل للانعتاق والقاتل لروح الحياة، فغالبا ما يكون القرآن في هذه المحتشدات غطاء لممارسات بشعة من اغتصاب وتحجر واعتداء… ومن يعمل في الظلام لا ينتج إلا ظلاما… فلنعلّم أولادنا قرآنا نورانيا يبث الحياة ويبني الأجيال”.

ويرتبط الاهتمام بالجانب الروحي العقدي للطفل بدوافع عملية ونفسية، حيث تترافق مشاعر السعادة والرفاهية في الحياة بصورة كبيرة بقوة الإيمان بالله وهو ما يؤكد التأثير الإيجابي للاعتقاد بقوة الخالق والتوق إلى رحمة الرب ومساعدته في مختلف مشاكل الحياة اليومية.

ويقول عالم الأعصاب وأستاذ علم النفس في جامعة باريس الثالثة، ألبير مخيبر، إنّ “الهدف الأساسي من صوت الإيمان، هو تهدئة الخوف الأصلي عند كلّ الناس، أي الخوف من الموت. والهدف الجوهري من الدين هو طمأنة الإنسان بأنّه إن مات، سيفوز بحياة آخرة”.

وأظهرت الدراسات العلمية أن الناس المؤمنين حين يفكرون بالله، يمنحهم ذلك شعورا بنظام معين في العالم، وشرحا للأحداث العشوائية، ممّا يخفف من شعورهم بالقلق ويشعرهم بالطمأنينة.

21