العقل الأحادي العربي مازال يصنع الأصنام

إن إعادة النظر في ما يصدر عنا – نحن البشر – من آراء وأفكار وتوجهات وميول وما يبنى على ذلك من انتماءات وقناعات يصل بعضها إلى العقيدة، يصل بنا إلى حقيقة قد نتغافل عنها أو نتجاهلها أو نرفضها، وندين كل من يتمثلها في فكره وسلوكه، ألا وهي: وقوعنا في فخاخ الصنمية الذهنية التي تمارس سطوتها على التفكير، بل تتغلغل في آليات التفكير وتتعشق معها بطريقة متجانسة، يصعب على السواد الأعظم من الناس أن يتخلص من شرنقتها، وتعمل بمهارة فائقة لأن تدفع صاحبها على اقتناعه/ أو رفضه نحو وجهة نظر معينة، وصولا به إلى ما هو أبعد من القناعة أو الرفض، وأعني بذلك، الدفع إلى سلوكيات معينة وانتماءات لجهات أو أحزاب أو عقائد.. الخ.
هذا بالضبط مثلما نقرأ عن عرب الجاهلية وغيرهم من الشعوب في بقاع الأرض أنهم يعكفون على أصنام لهم ويجعلونها ربا أو شريكا لله في الربوبية، من دون أن يناقشوا بديهيات تفكيرهم عن مؤهلات هذا الصنم “الحجر” الذي لا يضر ولا ينفع، فصار إلها يحنون رقابهم عند قدميه، بل لمرجحات لا تخضع إلا للمزاج العاطفي، من قبيل كونه من حجر له القدرة على الصمود والبقاء في وجه الطبيعة مثلا، أو غير ذلك من المرجحات المعبرة عن عواطف وتهيؤات لا تنهض وترتقي لأن تكون دليلا يستحسنه العقل، وهكذا يأتي الجيل الآخر، فيمضي بقناعة جمعية ما كان عليه الآباء والأجداد، وهذا صريح قولهم نقله القرآن إلينا: ” بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ / وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ” (سورة الزخرف: 22 – 23).
هذا التواصي الجمعي بالسير على ما كان عليه السابقون من قبل اللاحقين، نجده متبعا ومعمولا به في الكثير من المجتمعات، وأخص المجتمع العربي بعد الإسلام، ولعلنا لا نجد حاليا من يعبد الأصنام بصراحة، وقد يقدم النذور زلفى إليها، بل نجد من تمثلات الصنمية في مجتمعاتنا العربية (المسلمة) ما لا يخلو منها أيّ جماعة في كل أقطار الدول العربية، ولعل الاتباع الأعمى للجماعات لمن يرون فيه الأهلية للقيادة أو الزعامة، أو الأفضلية وهو “الزعيم”، رغم أنه قد يكون فاقدا لتلك المؤهلات، هو السائد في الواقع والافتراضي، فالكثير من الجماعات ينشأ لديها الاعتقاد بصواب مذهب فقهي من مذاهب المسلمين، لكونها ولدت في بيئة كان أهلها ينتمون لذلك المذهب، وهكذا يكون الانتماء إلى الأحزاب أو غيرها من الأيديولوجيات؛ بسبب ذلك الاتكاء على عقول الآخرين، والاطمئنان لسلامة تفكيرهم.
◄ المفارقة أننا نجد فلاسفة كبارا وعلماء أفذاذا هم من أبناء تلك الحضارة “الغربية” من يمارس خطابه النقدي على مجمل تلك الحضارة، ولا يسلم من باب التعصب (القومي/المناطقي) لحضارته بكل ما تنجزه
يبني الكثيرون على ذلك الاتكاء قناعتهم بجدوى تلك الأيديولوجيا، فضلا عن ظروف البيئة والقرب الاجتماعي من هؤلاء، يأخذ أثره أيضا في بناء توجهات الآخرين (الأتباع) ولا يقف الحد عند ذلك، بل يأخذ مديات أخرى تتمثل بالانصياع التام للآخر عند هذه الجماعات، اتباع مطلق يكشف خلوّ التابع من فكرة تشغله أو قناعة يبرهن على صوابها فيعتد بها، وذلك مثل الكثيرين المبهورين بحضارة الغرب وما يقدمه من تقنيات تكنلوجية في المجالات الصناعية وغيرها من مجالات الحياة.
يصل الحال بمتبّعي الغرب بعماء إلى تقليد كل تفاصيل اللباس الغربي في كل تفاصيله ومتابعة صرخات الموضة أولا بأول، واحتذائهم تلك التقاليد حذو القذة بالقذة حتى وإن لم يقتنع بها شخصيا أو من هم حوله من مجتمعه الصغير ممثلا بالرابطة الأسرية أو من مجتمعه الكبير، في الوقت الذي لا يقدم ذلك الاتباع ولا يؤخر عند متبوعه في شيء، ولا يضيف لهم شيئا سوى أن يتسع استهلاكهم بينما يستثمر الغرب ذلك الاتباع بازدياد دخل بلدانه القومي عبر تصدير ذلك المنتج أو ذاك إلى تلك البلاد، في حين بالإمكان أن نأخذ من المجتمع الغربي والحضارة الغربية ما ينسجم والفائدة العملية التي تقدمها لنا تلك المنجزات العلمية في حقل التكنولوجيا، من دون أن ننسلخ تماما عن كل ما يمثل تقاليد البيئة الجغرافية والدينية والثقافية.
ولا يعد مطلقا مثل هذا السلوك الانتقائي في استقبال منجز لأمة ما، ورفض منجز آخر، وصفا سلبيا بالمرة، فهو سلوك ينم عن وعي عال يفرض على صاحبه أن يأخذ ما ينفعه ويؤدي به إلى قضاء حاجته، ويرفض ما يجد فيه ضعفا أو خواء لمنجز آخر صدر عن الجهة نفسها، لا اعتزازا بما لديه انطلاقا من عصبية وتقليد أعمى، وإلا كان صنميا في تفكيره بارتداده إلى الذات وما تمليه على فكره من قيود تجعله أسير نتائجها غير المنطقية.
وفي هذا الصدد، نتفق مع الرؤية التي انطلق منها المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي في تمييزه بين نمطين من التقليد للآخر: أحدهما ممدوح والآخر مذموم، “فالتقليد إذا كان عن وعي وخاضعا لمنطق ينسجم مع الأسس والمبادئ العقائدية والمتطلبات الاجتماعية، فدون شك هو مظهر حضاري، وهو مظهر من مظاهر التعلم والتعليم يساهم في رفع مستوى الفهم والاطلاع لدى المقلد. وما نؤمن به اليوم من ضرورة اقتباس التجارب الغربية والتقنيات الجديدة والعمل بها في شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية بل وفي مجال الدراسات الإسلامية ونشر الأفكار والعقائد الدينية والثقافية، إنما ننطلق من هذا الفهم والإدراك لأن التقليد بحد ذاته ليس أمرا مرفوضا بل هو مطلوب إذا توفر على الشروط الصحيحة”. (التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ص 217).
والغريب أننا نجد البعض يسوق للجهة التي انبهر بمنجزها العلمي، ما يخصها من قناعة باعتناق دين من عدمه، بغض النظر عن منشأ تلك القناعة وظروف تكونها، فيسوّغ لنفسه اعتناقه الإلحاد مثلا لا لأنه قرأ عن الإلحاد ووصل إلى مفترق طريق أدى به أن ينفلت من عرى العقيدة، بل لأنه يرى أن تلك الأمم التي كانت ملحدة، متطورة في الجانب العلمي والعمراني والزراعي، فبنى على ذلك نتيجة في خياله أن سبب ذلك التطور في حياتهم كان إلحادهم، فيبتغي حينها خلع ربقة الدين من عنقه، والانطلاق في سبيل الإلحاد وصولا إلى ما وصل إليه الغرب.
قد يعلم أو لا يعلم هؤلاء أن هذه الدول إنما وصلت إليه من تطور في المجالات العلمية كافة، بسبب انتهاجها الانتقائية؛ لتتركز جهود طواقمها العلمية في جانب، وتدع جوانب أخرى من تلك التقنيات لطواقم علمية أخرى من دول أخرى تكمل ما تبقى من إنجاز ذلك المنتج التقني، من دون أن تحتكر كل جوانب إنتاج ذلك المنجز، وبالنتيجة توفر وقتا وجهدا عليها، فضلا عن خلق روح المنافسة في ما بين تلك الدول لأن يطور كل منها الجانب الذي يتقنه، مع استفادة الجميع من المردود التجاري لتسويق ذلك المنتج. وبهذه الانتقائية العلمية أنجزت لنا تلك الدول الكبرى أعظم ما توصلت إليه في هذه الجوانب العلمية الصرفة فضلا عما بيناه من قبل في الجوانب المعرفية الإنسانية كذلك.
والأغرب من ذلك حين نجد من يجنح إلى منطق التعميم، بإلغاء حاسة النقد التي بموجبها يتم انتقاء ما هو مفيد وعملي من الآخر الغربي، ورفض ما لا يقدم نفعا، أو ما فيه مضرة وابتعاد عن السلوك القويم، من يحمل شهادات عليا ويصل إلى مستويات علمية رفيعة تؤهله أن يكون مرشدا للناس في ما يكتبه من مؤلفات، مثال ذلك ما ذكره الدكتور علي الوردي “مستغربا” من حالة “الانتقائية” لدى الواعظين في التعامل مع الحضارة الغربية بقولهم للناس “خذوا من الغرب محاسنه واتركوا مساوئه، كأن المسألة أصبحت انتقاء طوع الإرادة كمن يشتري البطيخ. إن الحضارة جهاز مترابط لا يمكن تجزئته أو فصل أعضائه بعضها عن بعض، فالحضارة حين ترد تأتي بحسناتها وسيئاتها، وليس في الإمكان وضع رقيب على الحدود يختار لنا منها الحسن ويطرد السيء ومعنى هذا أنها تيار جارف لا يمكن الوقوف في وجهه”. (مهزلة العقل البشري، ص 16).
لا أعلم ما المشكلة إذا رغب الإنسان في الاستفادة من بعض ما أنجزته الحضارة الغربية؟ ولماذا تنتزع إرادة الإنسان – بحسب فرض الوردي – ولا يكون قراره باختياره شيئا دون آخر من منجزات تلك الحضارة الوافدة، نابعا من موقف أخلاقي وإنساني يلزمه ببعض الثوابت ويتيح له فرصة الاختيار في ما يجده نافعا له في حياته العامة أو الخاصة؟ وما الدليل الذي يمنع من تفكيك ترابطية جهاز الحضارة الغربي، بحيث يعد مثل هذا الفعل غير منطقي ولا يمكن تحقيقه على أرض الواقع؟.
لا يخفى أن الدكتور الوردي، على الرغم من حسناته الكثيرة في قراءاته النقدية في علم الاجتماع وتحليله لأحداث التاريخ وفقا لمتبنيات ذلك العلم ونظرياته، وقع في دائرة الانبهار بالآخر الغربي الذي أفضى به للقول “إن الحضارة الغربية مغرية وهي جبارة تسحق من يقف في طريقها” (مهزلة العقل البشري، ص 17). ولا أعلم هل الإنسان – على أقل تقدير بمستوى ثقافة الوردي وعلمه – لا يمكن له أن يتمالك نفسه إزاء إغراء الحضارة الغربية، فتجعله يرتمي في أحضانها في كل صغيرة وكبيرة، في حين هي – أي الحضارة الغربية – لم تكن في أصل تكوينها حكرا على الغرب، بل هي بحسب قوله “حضارة عالمية ساهم في إنشائها الشرق والغرب. وهي اليوم تتغلغل في مختلف أنحاء الأرض وتصل بثرها إلى أقصى مكان”.
◄ التواصي الجمعي بالسير على ما كان عليه السابقون من قبل اللاحقين، نجده متبعا ومعمولا به في الكثير من المجتمعات، وأخص المجتمع العربي بعد الإسلام
ما ذكره الوردي قريب في مضمونه مما ذكره آرنولد توينبي في نشأة الحضارات بصفة عامة، إذ يرى أن الأجناس جميعها – عدا القليل منها – قد ساهمت في انبعاث الحضارات إلى الوجود، واشتركت في تقدم البشرية في مختلف مناحي العرفان. فهي إذن ليست من صنع العقل الغربي فقط بحسب اعترافه، وهذا ما يفترض أن يكون دافعا لاعتداد الإنسان بما قدمته حضارته التي ينتمي إليها، بغض النظر عن النتيجة التي آلت إليها صدارة ذلك المنجز.
المفارقة أننا نجد فلاسفة كبارا وعلماء أفذاذا هم من أبناء تلك الحضارة “الغربية” من يمارس خطابه النقدي على مجمل تلك الحضارة، ولا يسلم من باب التعصب (القومي/المناطقي) لحضارته بكل ما تنجزه، ومثال على ذلك ما ذكره الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، في مقدمته لكتاب “معذبو الأرض” للمفكر المناضل فرانز فانون معترفا بنرجسية الغرب في نظرته للآخر “المستعمر”.
يقول سارتر “إنكم تعلمون حق العلم أننا مستغلون. إنكم تعلمون حق العلم أننا سلبنا ‘القارات الجديدة‘ ذهبها ومعادنها ثم بترولها، وجئنا بذلك كله إلى بلادنا القديمة. وقد حصلنا من ذلك نتائج رائعة: قصورا وكاتدرائيات وعواصم صناعية. ثم حين كانت الأزمة تهددنا كانت وظيفة أسواق البلاد المستعمرة أن تزيل الأزمة أو أن تحول مجراها. وأتخمت أوروبا بالثروات، ومنحت صفة الإنسانية لجميع سكانها على السواء، فالإنسان في بلادنا شريك في الجريمة؛ لأننا أفدنا جميعا من استغلال المستعمرات” (معذبو الأرض، فرانز فانون، ص 32) ومثل هذا الاعتراف، يؤكد أن الغرب لم يكن كله على السواء في النظرة إلى المركز الأوربي نظرة استعلاء وتمجيد في مقابل التبخيس والازدراء بالقارات الأخرى، بما يهشم تلك الصورة النمطية التي صغناها عن الغرب، فثمة من مارسوا نقد التمركز الغربي من داخل القارة الأوربية.