العقد الاجتماعي في ليبيا: نحو التغيير أم نكوص إلى الماضي

بعد مرور عشر سنوات على ثورة الـ17 من فبراير في ليبيا لا تزال التساؤلات تحوم حول الأجندة التي ستجمع الليبيين في المرحلة المقبلة بعد أن فشلوا طيلة هذه العشرية في وضع عقد اجتماعي بديل عن ذلك الذي أرساه العقيد الراحل معمر القذافي والذي دام لأربعين عاما قبل أن تندلع الثورة وتتم الإطاحة به وبنظامه.
طرابلس - احتفى الليبيون في الأيام الماضية بالذكرى العاشرة لثورة 17 فبراير 2011 وسط تفاؤل حذر بما تحمله المرحلة المقبلة من تحديات لاسيما على المستوى السياسي الذي يشهد انفراجة قد تفضي إلى حل للأزمة التي طال أمدها.
وأفضت ثورة 17 فبراير في ليبيا إلى نهاية العقد الاجتماعي الذي أرساه العقيد الراحل معمر القذافي واستمر على مدى أربعين عاما، لكن من أسقطوا نظام القذافي فشلوا في وضع عقد اجتماعي جديد يراعي مصلحة الشعب الليبي الذي مزقته آلة الحرب.
ويقول طارق مجريسي وهو زميل سياسات في برنامج شمال أفريقيا والشرق الأوسط في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إنه “في حين أن النظام القديم ربما مات مع موت القذافي، فإن الفشل في ولادة نظام جديد قد تسبب في تداعي العقد الاجتماعي والسياسي في ليبيا. وإذا أرادت الدولة بناء نفسها مرة أخرى، فسيلزم إنشاء عقد اجتماعي لبناء ليبيا جديدة مقبولة لدى معظم الليبيين”.
ويوضح المحلل والباحث السياسي المتخصص في الشؤون الليبية وبشكل أعم السياسة والحكم والتنمية في العالم العربي أن ليبيا في “عهد القذافي كانت واضحة، وتبعث برسالة أن ثروة ليبيا النفطية ملك لشعبها، وأن الشعب الليبي يحصل على تلك الثروة في صورة إعانات حكومية وإسكان حكومي والأهم من هذا كله من خلال التعيين في الوظائف الحكومية. ولكن الواقع اختلف عن هذه النماذج من الأفكار وكان دائمًا أكثر تنافسية من كونه يحقق مبدأ المساواة، وكان مجرد المطالبة بالحقوق الأساسية أمرا باهظ الثمن”.
ويشدد مجريسي على أن “هذا هو السبب في أن الديناميكية المهيمنة في المراحل المبكرة والمتأخرة للثورة كانت عبارة عن صراع محموم بين الجماهير الليبية للاستيلاء على أكبر قدر من ذراع الدولة المدرة للدخل، بدءًا من الوزارات إلى الشركات الحكومية. وتمت الإطاحة بالقذافي لكن دولته ونظامه ظلّا بل ازدادا تشويهًا يومًا بعد يوم. وقد طغى هذا على مشكلة أخرى غالبًا ما يتم تجاهلها في ليبيا، حيث لم يكن القذافي يمتلك مهارات الإدارة الجيدة. كانت الدولة التي بناها القذافي عملاقًا ثقيلًا، وكانت مكاتبها مصممة للتوظيف وليس للإنتاج، وكانت مواردها معدة حتى تتم سرقتها وليس لممارسة السياسة”.
وساءت الأوضاع في ليبيا التي انقسمت إلى حكومتين متنافستين وتحالفين عسكريين واحد في طرابلس وآخر في الشرق بعد 2011 حيث انهار الدعم الحكومي تحت وطأة الفساد، وحتى الوظائف الحكومية أصبحت لا تدفع الرواتب بشكل منتظم.
وباتت البلاد ترزح تحت وطأة حكم الميليشيات وأمراء الحرب الذين استولوا على مؤسسات الدولة ما دفع بالجيش بقيادة المشير خليفة حفتر إلى القيام بهجومه على العاصمة طرابلس في 2019 لتحريرها من سيطرة هذه المجموعات المسلحة قبل أن يفشل هجومه وينسحب الجيش تمهيدا لإتمام العملية السياسية.
وبموازاة الترتيبات الجارية على الصعيد السياسي التي تتجلى في انتخاب السلطة التنفيذية المؤقتة التي ستتفرغ لإجراء انتخابات عامة في ديسمبر المقبل، يواصل الليبيون التعويل على أنفسهم في مواجهة أزماتهم، حيث يضطر هؤلاء إلى حفر الآبار وشراء المولدات الكهربائية وغيرها.
ويرى مراقبون أنه لا يوجد طريق لعودة عقد القذافي الاجتماعي، والنظام الذي طبقه في يوم من الأيام أصبح تحت الأنقاض، ولم تظهر على من دمّر هذا النظام أي علامات للتراجع.
ويقول مجريسي “قد يتعين على الوظائف الحكومية التي تعتبر من أهم مصادر دعم الحياة لليبيين أن تمنع نفسها من الانهيار الكامل، لكن الكثيرين لم يدركوا بعد أنه سيتعين بناء الدولة الليبية المستقبلية من الألف إلى الياء”.
وطال تدهور الأوضاع النظام القضائي أيضًا حيث بات يعيش شبه عطالة بسبب سطوة الميليشيات على المؤسسات الرسمية وغيرها من الأسباب التي أربكت العمل القضائي.
ويؤكد مجريسي أن “النظام القضائي الليبي تحول إلى محط سخرية من قبل أولئك الذين أرهبهم ذات يوم. تم اغتيال القضاة وتم إجبارهم على إصدار أحكام بعينها، وتعرضت المحاكم بشكل روتيني للهجوم، وخُطف السجناء من عهدة الدولة. وفي غضون ذلك فرضت الميليشيات قواعدها الخاصة وأنشأت سجونها داخل إقطاعياتها”.
عبث قادة الميليشيات أصبح روتينا ما أرغم الدولة على التودد إليهم، بينما قرر المجتمع الدولي تطويرهم إلى شركاء
ويتابع “وبعد مرور عامين فقط من الثورة، كان لدى نظام المحاكم الليبي عشرات الآلاف من القضايا المتراكمة. ودفع غياب العدالة اليومية الناس العاديين إلى أن يستفيقوا مما زاد من تمكين الميليشيات والعصابات التي تعتمد على الخلافات لتزدهر”.
وبعد مرور عشر سنوات زاد نفوذ أمراء الحرب وقادة الميليشيات الذين ارتدى بعضهم الزي الرسمي وتقلدوا مناصب في مؤسسات الدولة رغم الجرائم التي تلاحقهم.
وأصبح عبث هذه الميليشيات وقادتها روتينًا ما أرغم الدولة على التودد إلى المجموعات المسلحة، وقرر المجتمع الدولي تدريبهم وتطويرهم كشركاء، وأصبحوا تدريجياً جزءًا لا يمكن تمييزه من النخبة الليبية الجديدة.
ولكن كما تُظهر الحروب شبه السنوية في طرابلس والعنف في بنغازي، فإن الفلسفة الجديدة التي ميّزت ليبيا هي التدمير ولكن تحت مسمّى آخر.
وتكمن جذور أوجه القصور الاجتماعي والإداري والعدالة في ليبيا في غياب عقد اجتماعي جديد، وعدم القدرة على تصنيف الحقوق والالتزامات والخصوصيات الليبية بعد القذافي. وقد دفع عدم كفاية هذه العوامل الليبيين إلى الشروع في ثورة لم يكونوا متأكدين تمامًا إلى أين ستؤدي بهم.
ويرى مجريسي أن عملية المؤتمر الوطني للأمم المتحدة مهدت الطريق إلى عقد اجتماعي جديد من خلال مؤسسات موحدة ولامركزية وفهم جديد لكيفية ممارسة الليبيين لحقهم في ثروة ليبيا. هذه معالم يجب توجيه ليبيا نحوها إذا أحرزت المحادثة التفاعلية حول إنشاء عقد اجتماعي تقدماً واستمرارية.
ويتابع أنه “في حين أن هذه الرؤية يمكن أن تساعد في توجيه الثورة الليبية، فإن معالجة الظلم هي السبيل الوحيد لاكتساب الثورة القوّةَ والنفوذَ. وهذا هو السبب في أن التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية ستتصدر عناوين الأخبار دائمًا، إلا أن الاستثمار في برامج العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية هو المفتاح لتسوية دوامة العنف في ليبيا”.