العرض الثاني ينتشل مسلسلا مصريا من النسيان

لم يحظ المسلسل المصري “ولاد ناس” الذي عرض في رمضان الماضي بما يكفي من اهتمام النقاد في زحمة عرض الكثير من الأعمال الدرامية، لكن بعد وضع العمل على يوتيوب وإعادة طرحه على بعض الفضائيات مؤخرا وجد اهتماما من شريحة كبيرة من المشاهدين، لأنه يناقش أزمات المدارس الخاصة مع المجتمع والتي تهم فئة من البيوت المصرية.
القاهرة - انطلق المسلسل المصري “ولاد ناس” من فكرة الأخطاء التي ترتكبها المدارس الخاصة في مصر، والتي تضخّمت بصورة كبيرة وتحوّلت إلى سلطة فوق السلطة التعليمية وهدفها جمع الأموال فقط دون اكتراث بالعملية التعليمية، ولا أحد يستطيع محاسبتها أو مراجعتها، فقد أوجدت لنفسها نفوذا بات يُبعدها عن العقاب، وتمتلك وسائل ضغط متنوّعة.
وضم المسلسل مجموعة من الفنانين والفنانات ممّن يمكن وصفهم بنجوم الصف الثاني الذين أبدعوا وأجادوا في السنوات الأخيرة، في مقدّمتهم رانيا فريد شوقي وإيهاب فهمي وصبري فواز وأحمد وفيق وبيومي فؤاد ومحمد عز وصفاء الطوخي ومحمود حجازي وناصر سيف، ومجموعة من الأطفال والشباب برعوا في تقديم أدوارهم، وقد ينتظرهم مستقبل باهر إذا تمكنوا من صقل مواهبهم.
حاول المخرج هاني كامل وهو المؤلف أيضا، الاستفادة من إمكانيات الجميع في تقديم عمل فني لا يكلف الإنتاج (إبراهيم حمودة ومنى قطب) مبالغ باهظة، والتي يكفيها أنها تحملت المجازفة في خرق بعض المحرمات الفنية، والتطرّق إلى جوانب معتبرة في قضية المدارس الخاصة الشائكة.
قفز فوق الأحداث

المسلسل قدم نماذج قاتمة لأطفال كانوا ضحايا للخلافات الزوجية، دون التطرق إلى الدور الذي تلعبه المدرسة في نشأتهم
بدت الدعاية فقيرة وغير كافية عند العرض الأول للمسلسل ما جعله يتوارى أمام الزخم الذي حظيت به بعض الأعمال الأخرى، كما أن خلوّه من مشاركة نجوم كبار يتولون الدعاية لأعمالهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي أسهم في الضعف الإعلاني.
ويسلّط العمل الضوء على فكرة السيطرة التي تمارسها المدارس الخاصة على التلاميذ والضغوط التي تقع على عاتق أولياء الأمور، وهي الفكرة التي لم تحتل الحيز الكبير في المعالجة الدرامية، حيث قفز منها المؤلف إلى دهاليز المشاكل الزوجية والخيانة والإهمال والخلافات التي تؤدّي في النهاية إلى الطلاق، وما يعكسه كل ذلك من تصرفات سلبية على الأبناء، تفضي إلى أزمات نفسية ومحاولات انتحار.
وأسهم عمل المخرج والمؤلف في مجال التربية والتعليم في الإلمام بالكثير من المعلومات عن طبيعة عمل المدارس، لكن حذره الزائد من التعرّض بصراحة لما يدور داخل جدرانها جعله يلجأ إلى الاقتراب حينا والابتعاد في أحيان أخرى عن جوهر الحكاية لدرجة الرجفة الفنية في الكثير من المواقع كي لا يبدو منحازا ضدّ المدارس الخاصة.
ولم يوفّق من قاموا على هذا العمل في اختيار عنوانه، لأن “ولاد ناس” يعني أن هناك من هم عكس ذلك، فضلا عن ربط “الأنسنة” بالمال والنفوذ فقط على اعتبار أن الأسر التي تلحق أولادها وبناتها بالمدارس الخاصة من أصحاب الثروة، وفي إشارة ضمنية إلى الارتفاع الجنوني في مصروفات هذه المدارس التي تتنوّع بين عامة وخاصة، ومحلية ودولية، وأميركية وبريطانية وألمانية وفرنسية.
كان يمكن أن يكون التركيز على ما تقوم به بعض هذه المدارس من ممارسات سلبية مفيدا للعمل، لأن هذه القضية تشغل بال شريحة ليست هينة من المصريين، والتطرّق لها بجرأة يحسب للمنتجين ويشبه الدخول في “عش الدبابير”، فقد تحوّلت بعض المدارس إلى مراكز قوى في مصر، ويمثل الالتحاق ببعضها معجزة لشدة الإقبال.
وتفرّع الحادث الذي انطلق منه العمل، وهو انقلاب سيارة إحدى المدارس وبداخلها التلاميذ، إلى قضايا عديدة مجتمعية، وبدا للمشاهد وكأن المؤلف تعمّد الذهاب بعيدا للهروب من استعراض الكثير من الأخطاء التي ترتكب داخل المدارس الخاصة، ووضعها في مقارنة بين نظيرتها التي تلتزم بأصول العملية التعليمية والتربوية.
وجسّد الفنان إيهاب فهمي دور المذيع اللامع الانتهازي الذي يتحرّك انطلاقا من مصالحه الخاصة، والمتاجرة بكل القيم، وعندما علم بتورّط ابنه في حادث انقلاب سيارة المدرسة حاول إبعاده عنها بكل الحيل، إلى أن انتبه للحقيقة وبدأ يُعيد حساباته، وتكرّر هذا الأمر مع المحامي الشهير الذي أدّى دوره صبري فواز تجاه مراجعة علاقته بابنه بعد أن كاد يفقده.
خلطة منقوصة

كان يمكن أن تصبح الخلطة الدرامية أشدّ إحكاما ممّا ظهرت عليه من خلال عدم التشعّب في التطرّق إلى حياة كل أسرة وتفاصيلها الاجتماعية الدقيقة، واختيار حالة أو اثنتين للتركيز عليهما، كنماذج كاشفة لطبيعة العلاقات الزوجية المعقدة.
ويشعر المشاهد أنه أمام عمل اجتماعي مليء بالتحوّلات الدرامية، وهي مسألة جيدة بعض الشيء، حيث حمل أفراد الأسرة وحدهم مسؤولية التصرفات الخاطئة التي يقوم بها الأبناء دون إشارة واضحة للدور الذي تلعبه المدرسة معهم في المرحلة العمرية المتقدّمة، وقدّم المسلسل نماذج قاتمة لأطفال كانوا ضحايا للخلافات الزوجية، أو انصراف الوالدين أو أحدهما عن رعايتهم.
وأسهمت جودة النواحي الفنية من حيث التصوير والكادرات المختارة والديكور، وبالطبع الإخراج، والمشهد المأساوي لانقلاب السيارة، في تأكيد الحرص على أن يكون العمل متقنا، وهي ميزة استفاد منها بعض الفنانين في إبراز طاقتهم، وعلى رأسهم صبري فواز الذي يثبت في كل عمل أنه صاحب موهبة كبيرة لم تستغل بعد.
المسلسل أطنب في ربط "الأنسنة" بالمال والنفوذ فقط، على خلفية أن المدارس الخاصة حكر على أبناء الأسر الثرية
بعض الأعمال الفنية تمرّ مرور الكرام ودون التفات جماهيري لها في عرضها الأول، غير أن هناك أعمالا تكتسب انتشارها من العرض الثاني أو الثالث، خاصة عندما تحوي مضمونا قويا ويهم الكثير من أفراد الأسرة المصرية، وبينها “ولاد ناس” الذي يقول بعض النقاد إنه لو توافرت له مساحة أكبر للدعاية كان من الممكن أن يحتل مرتبة متقدّمة في المنافسة على جودة أحسن عمل في رمضان الماضي.
لكن نقاد آخرين يرون أن الدعاية ليست العامل الرئيسي للانتشار أو الخفوت، فالمحتوى وما يطرحه من قضايا ومضامين يظل المقياس الحقيقي للجودة، وهناك أعمال حظيت بدعاية كبيرة وأنفقت عليها أموال طائلة وجاءت متواضعة في المحتوى النهائي ولم تحقّق الانتشار المرجو منها.
وفي عصر المنصات الإلكترونية والفضاء الفسيح والدور المتنامي لمواقع التواصل الاجتماعي يصعب التعويل على الدعاية المباشرة، لأن التطوّرات الحديثة وفّرت الفرصة لمخاطبة الملايين من المشاهدين بضغطة زر واحدة، الأمر الذي انتبه إليه طاقم عمل “ولاد ناس” فقاموا بوضع ملخص لـ30 حلقة على يوتيوب، كل حلقة متوسطها الزمني 12 دقيقة، أي ما يقرب من ثلث المدة الأصلية، وهي طريقة تتناسب مع السرعة التي يعيشها الناس، وتكسر حواجز الملل وحدته في الحلقات المطولة.
ويستطيع الجمهور أن يشاهد جميع حلقات المسلسل في يوم أو اثنين دون إعلانات تقطع تفكيره وتشتّت انتباهه، ويمكن للمشاهد الهروب منها بسهولة عند ظهورها على الشاشة، وقد ساعدت هذه الطريقة في جذب قطاع من الشباب لرؤية العمل بالمزيد من التركيز والانتباه، من هنا بدأ الكثيرون يتعرّفون على هذا العمل.
ألقى “ولاد ناس” حجرا ثقيلا في مياه المدارس الخاصة، وبحاجة لمن يستكملون الطريق حيال هذه القضية الحيوية بعيدا عن الاستغراق في المشاكل الاجتماعية النمطية، فالخلافات والخيانة الزوجية والمسؤولية عن تربية الأبناء التي تقع على عاتق الأب أو الأم قد احتلت حيزا كبيرا من المعالجة في الكثير من الأعمال الدرامية السابقة، بينما يظل تكثيف الاهتمام بما يدور داخل المدارس الدولية من تفاصيل غائبا عن الشاشة.