العرب ما بعد اليسار واليمين.. سؤال نجيب عليه بلعبة خطابة فارغة

يسار، يمين، وسط… كلما أثير النقاش حول الأمر تذكرت مدرس الألعاب في مدرستي الثانوية وهو يصرخ فينا كل صباح في الطابور “مدرسااااااه صفا، مدرساااااه انتباه”.
كان الرجل خريجا جديدا، وكان طوال الوقت مشغولا بكيفية ملء فراغ عدم الاهتمام بتخصصه في نفوسنا بتفاصيل وممارسات أخرى. منها مثلا أن يفرض علينا استخدام مصطلح “التربية الرياضية” وليس “الألعاب” الذي اعتدنا استخدامه. وهو فرض لا يتورع في حمايته عن البطش اللفظي والبدني أحيانا بكل من تسول له نفسه مجرد اختبار مدى جدية الأمر.
من ذلك أيضا حرصه الزائد على مشيته الاستعراضية التي لسوء حظه كانت مثار سخرية، وصارت مثار ضحك هستيري عندما خانته تكورات جسده بعد الزواج. تعددت ممارسات الرجل في الحقيقة وتنوعت بحيث يصعب حصرها لكن لا مفر من الإشارة إلى قسوته الاستعراضية على المستضعفين من الطلاب، وحكاياته الاستعراضية عن أمجاده عندما كان ضابط احتياط في الجيش أثناء خدمته العسكرية.
◙ القيادة مسؤولية والتعليم تلزمه تربية والتربية تلزمها قدوة، ونحن عرب لنا قدوتنا التي لا نرضى بها بديلا
المثير أن الرجل حين استشعر فشل كل هذه الأداءات في منحه أهمية مدرسي الفيزياء والأحياء والرياضيات في نفوس الطلاب، هدته نفسه إلى لعب دور الداعية، فراح يخصص حصصا كاملة يجمعنا خلالها في غرفة “الألعاب” ليحدثنا عن أمور ديننا، من قبيل كيفية الاغتسال من الجنابة ورفع الحدث الأكبر، مستخدما بعض الطلاب كنماذج لنرى بدقة كيف يمكننا تجفيف الجسد بعد الاغتسال من دون لمس الأعضاء التي تُفسد الوضوء.
يمين، وسط، يسار… صفا، انتباه، معتدا :مارش، للأمام سر، أو للخلف در.
وجه لي الصديق الشاعر نوري الجراح عبر البريد دعوة كريمة للكتابة في ملف لمجلة “الجديد” حول “العرب ما بعد اليسار واليمين”، تحت سؤال كبير “كيف ينبغي لنا نحن العرب أن ننظر إلى الحاضر والمستقبل وإلى التحولات الجارية، في ظل لحظة عالمية تتميز بالفراغ الفكري وضياع المعايير؟”.
“أوبببببا، أسئلة كبيرة يا صديقي” قلت له”، وأضفت “سوف أحاول، ولكن لا أعدك بأكثر من عبث الطفل المحتار”. فجاوبني كما يليق بشاعر “أحسن، بالأسئلة”.
في الواقع يا صديقي الكبير، لا أستطيع أخذ الأمر بجدية تزيد عن نظرتي للجدية التي حرص أستاذ الألعاب على إضفائها إلى نفسه طوال سنوات الدراسة الثلاث.
تساؤلاتي حول هذا الأمر شديد الخطورة “موقف العرب اليوم بعد سقوط اليمين واليسار”، لن تختلف كثيرا عن تساؤلاتي عن التركيبة النفسية العجيبة التي صنعت شخصية مدرس الألعاب في دراستي الثانوية.
☚ ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
في الواقع أيضا، أخشى، إن تصديت لكتابة جادة حول الأمر أن أقع في فخ تبادل الدور معه.
يمكنني صعود المنصة وقراءة خطبة عصماء عن المخططات التي تُحاك في الخفاء، لعلها باتت الآن في العلن، من أجل تفكيك العرب وإخضاعهم. سوف أقول كلاما طويلا عن نظرية المؤامرة، سوف أتفنن في صياغته. ويمكنني أن أنقل فقرات كاملة من كتاب “لعبة الأمم” لمايلز كوبلاند كما يفعل الأصدقاء، ولا بأس إن اقتطفت مقولات شهيرة لبعض رموز الكيان الصهيوني أو أحد وزراء الخارجية أو حتى رؤساء الولايات المتحدة التي تعزز هذا الأمر. سوف يكون كلامي شديد الجدية، وربما يتسبب في إبهار المستمعين تماما كحديث مدرس الألعاب عن كيفية اتقاء لمس الأعضاء الحساسة عند تجفيف الجسد بعد الاغتسال.
لكن يمكنني كذلك أن أبدأ الكلام بطريقة مدرسي الرياضيات والفيزياء، فهم أشد أهمية عند الطلاب، وعلومهم ذات قيمة وفيها الكثير من المعادلات برموز لاتينية رشيقة، سوف أرسم خطا طويلا على السبورة، ثم أحدد عليه نقطة في أقصى اليمين وأكتب عندها بخط تصعب قراءته: الفاشية. ونقطة أخرى في أقصى اليسار وأكتب قربها بخط متعرج: الشيوعية. وأضع بين النقطتين علامات على طول الخط تسمح بوضع كلمات أخرى مغلقة الدلالة حول الأيديولوجيات المحافظة، والليبرالية.
سوف أراقب الشغف وربما البله أو عدم الاكتراث في عيون الطلاب، ثم أرتب كلماتي بما يليق بعقولهم الصغيرة.
◙ كيف ينبغي لنا نحن العرب أن ننظر إلى الحاضر والمستقبل وإلى التحولات الجارية، في ظل لحظة عالمية تتميز بالفراغ الفكري وضياع المعايير؟
سوف أحاول أن أبيّن لهم أن هذه المصطلحات الكبيرة والعصية على فهمهم المتواضع تشير إلى وجهات نظر متباينة يختلط فيها الاقتصاد بالسياسة بنظم الحكم. وقبل أن يتخيلوا أن الأمر بسيط سوف أضيف أنها في عمقها شديدة التعقيد لأنها ترتبط باختلافات قيمية وأيديولوجية.
أخشى أن أتثاءب قبل أن يتحمس أحدهم ليسأل عن علاقة العرب بالأمر؟ لأن عنوان الدرس هو “موقف العرب في عالم فقد الاتجاهات”، لو لم يتبرع أحدهم بالسؤال فسوف أكتبه على السبورة، وأقرعهم به في وجوههم، وعليهم أن يجتهدوا في تقديم إجابة وإلا حرمتهم من علامات السلوك، ووضعت أسئلة الاختبار من خارج المنهج. وفي قرارة نفسي سوف أشكر الله أن أحدهم لم يبادرني بالسؤال، كنت سأضطر إلى التحول إلى لعبة خطابة ستظل فارغة مهما أجدت تعبئتها بالتنظير والتبرير.
يا صديقي، هذا أمر أعلى بكثير من قامة شاعر. الأفضل أن أقول إنه أقصر كثيرا من أن يعتني به الشعر. فلماذا أقسو على نفسي؟ داعب نفسك قليلا يا رجل فلن يخرب الكون ولن ينصلح أيضا.
وجدت الحل، سوف أقود الطلاب إلى غرفة الألعاب، أصرخ فيهم محذرا أن يسمّيها أحدهم إلا بغرفة التربية الرياضية، ولكي لا أتهم بالدكتاتورية سوف أسمح لهم باختيار أماكن للجلوس، ليست مشكلتي أن الأماكن محددة ولا مجال للاختيار، هذه مشكلة أخرى، وحتى لا يظن أحد أنني أسيء فهم الحرية فسوف أحدد لهم ثلاثة اختيارات لموضوع الدرس: كيفية الغسل من الحدث الأكبر؟ أو كيف تكون صلاتك صحيحة؟ أو كيف نتعامل مع الاحتلام؟ لن أسمح لأحدهم بتحويل دهشته من الصلة بين هذه الموضوعات وحصة الألعاب إلى سؤال؟ القيادة مسؤولية والتعليم تلزمه تربية والتربية تلزمها قدوة، ونحن عرب لنا قدوتنا التي لا نرضى بها بديلا.