العربي رمضاني: الاحتجاج الجزائري بدأ في ملاعب كرة القدم

يستعيد الكاتب والإعلامي العربي رمضاني في هذا اللقاء المغامرة التي خاضها في بحار المتوسط حين قرر الهجرة إلى ما وراء براري الوطن "حرّاقا" هاربا من لظى العيش وبؤس الواقع وحصار الحياة الصعبة التي عاشها كغيره من أترابه حيث لا أفق ولا مستقبل. كما يقول. ولم يكن في علم هذا البحر الهائج أن على ظهره كاتبا لامعا التقط أدق تفاصيل تلك التجربة.
بعين لاقطة متنبهة دوّن الكاتب العربي رمضاني كل ما مرّ من همس وغبار وحس ونأمة وأنين ينبعث من خيام العزلة التي وضعت في متناول المهاجرين غير الشرعيين من طرف الدول التي استقبلت الجموع الفارة من نار القسوة والجحيم، وقد صدرت هذه التجربة في كتاب عن منشورات المتوسط بعنوان “أناشيد الملح”.
رحلة ممتعة ومثيرة جاءت بقلم كاتب جاء من اللاكتابة من بياض الورقة ورسم الأهوال والمصائر التي خفقت في مجهول البحر وعلى قوارب الموت.
هو كاتب من مواليد 1986 بسيدي نعمان من محافظة المدية في الجزائر. حامل شهادة بكالوريوس في الصحافة له مساهمات إعلامية في العديد من الصحف الجزائرية والمواقع، و”أناشيد الملح” هو كتابه الأول.
تكاد تجربة الهجرة غير الشرعية المعروفة اختصارا بـ”الحرّاقة” تجربة خطيرة ومغامرة تلامس الموت أو مات في طريقها المئات بل العشرات ممن ضاقت بهم أوطانهم بسبب قهر المعيشة وضنك الحياة وسياسات الحكّام القامعة والمتسلطة بقوة السلاح والترهيب والتخويف والتخوين، إنها تجربة مع الموت وجها لوجه لا أحد يعرف كي ستنتهي وعلى أيّ برّ سترسو تلك القوارب الهشة التي تمخر مياه البحار الغاضبة أمواجها العاتية.
هذه التجربة خاضها الكاتب والإعلامي العربي رمضاني، وصل إلى بر الأمان بعد رحلة فصّلها في كتابه “أناشيد الملح” إذ يروي فيه أدق التفاصيل التي شكلت لحظات فارقة على تخوم الموت وهو يواجه عواصف مصير غامض ومخيف.
يقول عن هذه التجربة إنها بقيت “حاضرة دوما في وجداني، راسخة بعمق في الذاكرة، أعيش تفاصيلها في حياتي لا تمرّ لحظة إلا وأستحضر هدير البحر ليلا، ملامح المهاجرين خاصة الأطفال منهم، وضحكة رفيق سفر حراك اسمه فارس، وشغب الجزائريين في المخيم ومناوشاتهم التي لا تنتهي مع الشرطة.
حاضرة أيضاً في نبضات القلب المتسارعة، صوت المهرّب، فتنة ساموس، مطرها، شمسها، خجلها، أماسيها الصاخبة بقوافل السياح من جنسيات عديدة، أسراب النوارس في الميناء، وجنون البحر كلما ابتعدنا عن الساحل، مطر إسطنبول وطقسها المضطرب شتاء، مزيج من مشاعر الخوف والتردد ونفحات أمل ولحظة الوصول إلى ساموس وما رافقها من فرح.
لا يمكن أن أتجاوز كل تلك المشاهد والحالات التي مررت بها. أتصور أنها باتت جزءا مهمّا من حياتي، تسكنني كصباحات يمتزج فيها صخب المهاجرين في فندق بإزمير وصوت المارة وهدير البواخر وضجيج السجن وفضاضة رجال الأمن وعزلة المستشفى والمرض المفاجئ، مطعم السيدة الكردية قرب محطة بسمانة، وساموس تطل كل فجر وترسل تحايا عديدة وعتابا طويلا”.
تجليات المغامرة
بعد عودته إلى الجزائر قام رمضاني بتدوين ما أمكنه من هذه المغامرة، يقول إنها مكنته من القبض على أقصى “حالات الجنون والتهور. أحيانا يهيأ لي، وأنا بجوار البحر، أنها كانت محاولة انتحار أفشلتها أسباب عديدة أبرزها الإصرار على النجاح رغم كل الظروف الصعبة التي واجهتها في البداية، من عبثية المهربين ورداءة الجو وجنون البحر”.
ويعتبر أنها لم تكن سوى “رغبة عارمة في البحث عن حياة كريمة لا أكثر، وأفق مضيء وإثبات للذات. التجربة من بعيد يمكن إيجازها في التضحية من أجل إزاحة ركام الخيبة والفشل والتهميش في الوطن وتعويضه بوطن آخر يحترم آدميتك ويبادلك التحية صباحاً ولا يعتبرك رقماً لا أكثر في قوائم الانتخابات والموتى”.
ويشير الكاتب إلى أن أبرز تجليات هذه التجربة كانت في “الصراع الدائم والشرس مع الموت، مع الأمن، مع المهربين، مع البحر، مع المهاجرين أنفسهم، مع الجغرافيا والواقع. صراع مرير بين القلب والعقل، بين مواصلة التجربة على قبحها والتراجع والعودة إلى الوطن، ملمح التجربة الرئيس أنها كانت هروباً لا ينقطع، تتخلله لحظات إنسانية يختلط فيها الفرح والعبث بالحلم والمغامرة والاحتكاك بجنسيات عديدة تحمل نفس همّي، ونتقاسم معا لعنة الأوطان الطاردة لأبنائها الباحثة عن غد هادئ لا مكان فيه للحاضر التعيس والمستقبل المجهول”.
تدوين المغامرة
دفعت هذه التجربة الكاتب رمضاني إلى خوض تدوينها فبتشجيع من زملاء يقول فقد “كنت أتواصل كثيرا مع صديقي الإعلامي المعروف سليمان بوصوفة الذي شجعني ودعمني كثيرا، رفقة صديقتي نور المترجمة والمغتربة في باريس، والتي كانت أيضاً على علم بتفاصيل الرحلة وأخطارها ومراحلها، وكلاهما كان يصر على تدوين ما عشت هناك، وتعززت فكرة الكتابة أكثر بعد عودتي من اليونان إلى الجزائر حين اقترح الكاتب والروائي سعيد خطيبي جمع شهاداتي عن ‘الحرڨة’ ونشرها في حلقات عبر مجلة إلكترونية، كانت أول من قدم تجربتي إلى القراء وتفاعلوا معها كثيرا وطلبوا نشر مزيد من التفاصيل التي صدمتهم، خاصة وأن معظم ‘الحراڨة’ الناجين منهم لا يكتبون تفاصيل تجاربهم ويتفرغون للبحث عن ذواتهم في البلدان التي نجحوا في الوصول إليها ولا يختلفون في ذلك عن الضحايا الذين يبتلعهم البحر وتدهسهم القطارات ويقتلهم حرس الحدود”.
ويضيف الكاتب “أردت الكتابة عن تجربتي رفقة بقية المهاجرين الذين صادفت حتى لا تغدو ‘الحرڨة’ مجرد ظاهرة تتعرض للتعتيم وتختزل فقط في أرقام من ألقي عليهم القبض في السواحل وهم يحاولون الهرب أو أرقام الضحايا سواء في البحر أو البر، وهذا طمس أتصور أنه متعمد للتهوين من الظاهرة وتجاهل أسبابها الحقيقية التي يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي واختلالات النظام الدولي وجدلية المركز والأطراف”.
أحلام الهجرة
يعتبر رمضاني أن “حلم الهجرة حق مشروع لكلّ إنسان يرغب في اكتشاف العالم والبحث عن حياة أفضل أو اكتساب معارف والاحتكاك بالثقافات الأخرى.
الذي يحدث أن الهجرة القانونية خاصة في العقود الأخيرة لم تعد متاحة للجميع وصارت انتقائية جدا ولا تتاح إلا لفئة بعينها خاصة المسؤولون الكبار في الدول ورجال الأعمال وحملة الشهادات وفي تخصصات بعينها، أما باقي الفئات ففرصها في الحصول على تأشيرة شبه معدومة فضلا عن البيروقراطية والإجراءات الصعبة في تقديم التأشيرات والرسوم المكلفة ماديا وما يحيطها من عمليات فساد وتربّح وكلها معروفة وتتحدث عنها الصحافة.
الحرمان من التأشيرات خاصة للفئات المهمشة والبطالين واحدة من الأسباب التي تدفع الشباب لركوب البحر والمخاطرة بأرواحهم للوصول إلى الضفة الأخرى، ثم إن الهجرة تاريخيا كانت جزءا من سلوك الجزائري وعلاقته عميقة مع البحر، سواء في الحروب والقرصنة أو في الهجرات الجماعية بسبب الاستعمار”.
ويشير الكاتب إلى أن “ما كتبته بمثابة شهادة واقعية وحقيقية عن معاناة المهاجرين غير الشرعيين كما تصفهم الحكومات والإعلام، فضلا عن كون الكتاب تقرير يدين أنظمة الفساد والفشل وتلك الحكومات التي تزايد بحقوق الإنسان وفي المقابل تمارس تعسفا فاضحا ضد الفارين من الحروب والاستبداد والتفقير الممنهج للناس، خاصة في العقود الأخيرة التي شهدت حرمانا غير قانوني للمهاجرين من حق اللجوء بالإضافة إلى الترحيل القسري لطالبي اللجوء بما يتنافى مع المواثيق الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
والأسوأ من ذلك، التعامي عن انتهاكات حقوق الإنسان في دول العبور خاصة في تركيا واليونان وليبيا، والاستمرار في دعم أنظمة جنوب المتوسط تحديدا، التي باتت أكبر مصدر لـ’الحراڨة’ كنتيجة طبيعة لغياب الحرية، واستشراء الفساد وانعدام العدالة الاجتماعية والتنمية”.
أدب الرحلة
يغيب أدب الرحلة في الجزائر لأسباب عديدة رغم أهميته في فتح نوافذ مهمة على العالم وشعوبه وثقافاته، يقول الكاتب رمضاني، فباستثناء “ما كتب سعيد خطيبي ‘جنائن الشرق الملتهبة’ وسفيان مقنين ‘جزائري في الأندلس’، فإن هناك عوائق عديدة تفسر عدم الاهتمام بأدب الرحلة، يبرز فيها البعد السياسي وشمولية الحكم وما يفرزه من صعوبات جمة في التضييق على الراغبين في السفر، وبتواطؤ من الحكومات الغربية تحديدا، فضلا عن البعد الاقتصادي وتأثيره على قدرة الجزائري في السفر الذي يبقى ترفا وحلما بالنظر إلى الوضع المعيشي المتردي”.
والجزائري عموما يشير رمضاني “لا يزال وفيا لنزعته الشفوية في التعامل مع التاريخ والواقع وعدم اهتمامه بثقافة التدوين والكتابة وتفضيله المشافهة على
الكتابة ربما لكون الجزائري مكتف بنفسه لديه تمركز حول الذات ولا ينزع للحوار مع غيره وكل هذا نتيجة طبيعية لعقود من العزلة خاصة في فترة العشرية الدامية وما تركته من ندوب في الذاكرة وصور نمطية عديدة خلّفت حاجزا بين الجزائري والعالم”.
الحراك والأمنيات
ينظر رمضاني إلى “الحراك الشعبي كأعظم لحظة تاريخية في الجزائر، بعد ثورة الفاتح من نوفمبر، رغم اختلاف السياقات، الحراك من وجهة نظر شخصية تفجير لتراكمات عديدة من الخيبة والغضب والاحتقان الشعبي ضد نظام ريعي فاسد ومستبد، انغلق على نفسه كثيرا، وبالغ في احتقار الشعب وتبديد المال العام وخنق الحريات والتلاعب بالهوية والمزايدة بالورقة الأمنية حد تخويف الناس من الآتي وتذكيرهم بالعشرية الدامية إن هم فكروا في التمرد على حكمه المسيّج بشرعية ثورية مستهلكة وسرديات بالية لم تعد تقنع أحدا”.
من هنا يعتقد رمضاني أن الحراك “لم يتبلور نتيجة لخطاب نخبوي أو دور واضح للمثقف، بل ظلت بوادره محصورة في مئات الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها مختلف القطاعات دون إغفال صيحات وأهازيج أنصار كرة القدم في المدرجات التي كانت تعبر عن حالات الرفض الشعبي للسلطة”.
وفي رأيه أن “المثقف تحرر بفضل الحراك ولو ظرفيا وتبنى مطالب الشعب في الأسابيع الأولى للانتفاضة، لكن الذي حدث أنه مع مرور الوقت أصبح لدينا مثقف منحاز تماماً لحق الشعب في عهد جديد قائم على الحريات والديمقراطية، ومثقف آخر اقتنع بالتغيير الذي استهدف واجهة النظام وأبقى على بنيته التي يستهدفها الحراك من أجل إحداث قطيعة شاملة.
هذا التناقض بين المثقفين يعكس مأساة حقيقية ووجودية تعيشها الجزائر منذ الاستقلال، بين مثقف عضوي يؤمن بالقطيعة ويمارس نقداً فاضحاً لنظام الحكم، ومثقف آخر لا يجد حرجا في لعب دور الموظف في ديوان النظام والتماهي مع أساليبه في تسيير الشأن العام بعبثية ورداءة لا يمكن طمسها، ولا تزال مستمرة إلى الآن رغم استمرار الحراك ولجوء السلطة للتضييق والقمع والاعتقالات التعسفية وإصرارها على نتائج انتخابات تعيد رسكلة نظام الحكم بنفس الممارسات السابقة التي ثار ضدها ملايين الجزائريين منذ 22 فيفري”.
وختم قوله إن “المثقف الانتهازي غيّر بوصلته واختار مسايرة مشاريع السلطة في تجديد نفسها متجاهلا إصرار الشعب على التغيير منساقا خلف مصالحه الضيقة”، لكن المثقفين الأحرار في أفكارهم وسلوكهم مازالوا مصرّين مع الشارع على التغيير.