العراقي رعد خلف: النضال الفني من أصعب حالات المقاومة

على امتداد سبعة أيام قدمت أوبرا دمشق عرض ميوزيكال حمل عنوان “قصة من الشرق” للموسيقار العراقي المقيم في سوريا رعد خلف، جسدها فريق فني جاوز عدده المئة شخص، بين موسيقي ومغن وفني وراقص وتقني، فكان أشبه بمغامرة فنية تعتمد على مواهب وطاقات الشباب، وتؤكد أن الإبداع الملتزم الذي يمزج بين الترفيه والتثقيف لا يزال له مكان في الوسط الفني الذي طغى عليه الطابع التجاري والاستسهال.
تنبأ المخرج السينمائي العالمي ألفريد هيتشكوك بوجود عرض ميوزيكال عالمي مدهش من خلال رواية “البؤساء” للكاتب فيكتور هوغو، فقال فيها “هذه الرواية يمكن أن تكون عرض ميوزيكال مدهشا”، وهو الأمر الذي تحقق لاحقا عندما قدم الميوزيكال باللغة الإنجليزية وحقق نجاحا عالميا دفع الجهة الإنتاجية إلى تنفيذه بأكثر من لغة عالمية بين شرق الأرض وغربها واستمر عرضه عشرات السنوات، وباتت له ولغيره من عروض الميوزيكال شهرة كبرى، منها ميوزيكال “شبح الأوبرا” الذي ذاعت شهرته في العالم وقدم في مدينة دبي عام 2019 لمدة شهر.
ومن المعروف أن فن الميوزيكال هو عرض يقوم على الموسيقى والغناء والرقص وعلى بناء درامي محدد. وهو على الرغم من كونه يقدم أنماطا فنية مختلفة يصنف كأحد أشكال المسرح، على نقيض الأوبرا التي هي فن موسيقي خالص، ظهر أولا ليقدم مواضيع بسيطة تتعلق بقصص الحب والكوميديا، فكسب جماهيرية كبرى خاصة في أوروبا ونافس الأوبرا الكلاسيكية. لكن فن الميوزيكال قدم لاحقا موضوعات عميقة وشخصيات ملحمية وجدت عبر التاريخ الإنساني.
عربيا تبدو التجربة خجولة بسبب العديد من المشكلات، أولاها عدم وجود جهات إنتاجية تتبنى هذا الفن المكلف ماديا. وظهرت على امتداد الوطن العربي تجارب قليلة حقق بعضها نجاحا، لعل أقرب وأهم تجربة عربية هي ما قدمه المسرح الرحباني في العديد من أعماله.
تجربة سورية حديثة
فن الميوزيكال يصنف كأحد أشكال المسرح، وهو عرض يقوم على الموسيقى والغناء والرقص وعلى بناء درامي محدد
في حي جميل وادع تتعانق فيه الحجارة والألوان، تتشكل حواري وبيوت متتالية لتوجد جدولا من الحياة، تظهر في الحي قصة حب عاصفة، بطلاها جاد (مصطفى الشهابي) وشغف (آية الشاعر).
عبر زمن العرض تتضافر جهود رعد خلف في التأليف الموسيقي والإخراج مع تأليف محمود إدريس في الدراما والشعر والنظرة المسرحية التي قدمها وئام الخوص وسينوغرافيا الفنان نزار بلال، كما ظهر في العرض جهد مميز في الإضاءة التي صممها عمار الحامض، وحفل بتنويعات في الأزياء صممتها ريم شمالي. وقدم مدرب الرقص معتز ملاطيه لي لوحات راقصة في العديد من الأشكال العالمية وكانت الاستشارة الفنية للناقد سعد القاسم.
علاقة الحب العاصفة بين الزوجين كانت محط خطر سببه حقد الآخرين الذين يريدون النيل منها وتفريقها، فالزوجان الشابان يحبان بعضهما البعض وتزوجا بعد توقد عواطف الحب بينهما، لكن ابن عم الزوجة الشابة ناجي (علي يوسف) يريدها زوجة له بداعي أن ابن العم أولى بالفتاة من الغريب. وتبدأ حلقات الصراع بين قطبين رئيسيين، أحدهما يريد إفشال الزواج، وأقطابه الفرعيين والد شغف المختار وابن عمها وبعض الشخصيات التي تدور في فلكهما، وآخر يريد نجاح الزواج انتصارا للحب، وأقطابه الفرعيين بعض الناس الذين يرون في هذه العلاقة خيرا، أهمهم البائع المتجول درويش (غيث الأدهمي).
كما تظهر شخصيات تعارض الفريق الأول بقيادة غالية (غزل يوسف)، وهي رئيسة جمعية نسوية تعارض بقوة المختار وفريقه وتسعى لتزويج ابنها من إحدى بنات جمعيتها.
ينتهي العرض على المستوى الدرامي بنجاح فريق الخير في لمّ شمل الجميع على الحب.
"قصة من الشرق" ثالثة تجارب رعد خلف، وهي تأكيد منه على التزامه بتقديم هذا الفن الصعب والمكلف
وكان واضحا في تركيبة العرض أنه يتجه نحو جمهور الشباب، من خلال تبني قصة حب عاصفة وكشف الصراعات التي تدور حولها، وكذلك من خلال تبني المواهب الشابة في معهدي الموسيقى والمسرح في سوريا، بعيدا عن سطوة نجوم المشهد الفني سواء في التمثيل أو الغناء أو الرقص، فكل المشاركون في العمل هم من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للموسيقى، كما شارك عدد من طلبة المعهدين.
في ميوزيكال “قصة من الشرق” يقدم رعد خلف، الموسيقي العراقي الشهير المقيم بدمشق، ثالثة تجاربه في فن الميوزيكال بعد “سفر النرجس” و”آخر حكاية”، في تأكيد منه على التزامه بتقديم هذا الفن الصعب والمكلف.
تسأله صحيفة “العرب” عن سبب تمسكه بتقديم هذا النوع الفني، فيجيب “لأن الميوزيكال شكل فني يشبه مجتمعنا وشبابنا، فهو عالم متنوع متجدد، تستطيع فيه استخدام كل الأنماط الموسيقية، وليس قالبا محددا ملزما”.
ويتابع “في الميوزيكال إطار خارجي وتستطيع في الداخل التنويع، وهذا ما عملت عليه في ‘قصة من الشرق’، حيث قمت بالتنويع وتقديم الاختلافات، فقدمت أغنية جاز وأغنية شرقي وموسيقى وغناء متعدد الأشكال، هذا الشكل الفني يدفعني إلى الإصرار على تقديم المزيد من الأعمال، وصولا إلى الطموح الأكبر وهو تقديم الميوزيكال الحقيقي الذي هو مادة درامية مغناة بالكامل، وهو أحد أشكال الموسيقى الأصعب، كما في الأوبرا، ولكن بنمط الأوبريت، نعرض فيها الكوميديا الضاحكة وكذلك المآسي، كل هذا في إطار فني مناسب. هو طموح صعب وكبير لكننا نعمل على تحقيقه”.
استقطاب الجميع

تبنى ميوزيكال “قصة من الشرق” مواهب وطاقات شابة، وقدم عبر ما يزيد عن الخمسين منهم عرضا يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص والتمثيل، وقدم كل محفزات عروض الشباب، منها موسيقى الهيب هوب والجاز إضافة إلى الغناء العربي الطربي الخفيف وغير ذلك. كما شمل تنويعات في الرقص المحلي والعالمي حتى رقص الباركور الرياضي المعتمد على اللياقة البدنية العالية جدا.
ويوضح رعد خلف ذلك لـ”العرب” قائلا “وجهت العمل إلى الشباب، ولكي يكون العمل صحيحا رحت باتجاه المؤسسات التعليمية، المعهد العالي للموسيقى والمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، فشارك معنا خريجون وكذلك طلاب، ولأول مرة يحدث في تاريخ المعهد المسرحي تنظيم مسابقة لاختيار المواهب التي ستكون موجودة في العمل الذي شارك فيه 120 طالبا اخترت منهم العدد اللازم للعمل الفني”.
ويضيف “خلال المسابقة تعرفت على طاقات فنية هائلة، بعضها في السنوات الأولى من الدراسة. وبسبب وجود هذا الحشد الكبير من المواهب الفنية، كنت مضطرا إلى تغيير صياغة العرض، فبعد أن كانت البطولة فردية عدلناها أنا والكاتب لتكون جماعية، فالقصة كانت مبنية بشكل مختلف تماما، لكنني رغبت في التغيير إلى البطولة الجماعية حتى لا نقصر تجاه أي موهبة شاركت معنا، واهتممت في العمل أكثر على الشباب فاتجهت نحو عوالم موسيقية تخصهم مثل الراب والهيب هوب”.
ويتابع خلف عن جوهر عرض الميوزيكال وتوجهه “الميوزيكال لا يعمل على مبدأ ‘الجمهور عاوز كده’، لكنه يخاطب هذا الجمهور بما يهمه، لذلك يسمى بـ’عرض العائلة’، وهو يستقطب الجميع ويصنع حالة من الفرح، وهنالك الكثير من أعمال الميوزيكال التي قدمت من قصص الرسوم المتحركة، فيها الفرح والترفيه، وفيها دراما لكنها تنقل الجمهور إلى عالم آخر فيه الراحة النفسية والهدوء”.
عكس التيار
لا يبدو وجود فن الميوزيكال في عالم اليوم سهلا، فعصر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت أوجد حالة من طغيان الشكل الفني التجاري الذي لا يقدم مادة فنية عالية كما في عرض “قصة من الشرق”.
يقول رعد خلف في هذا الخصوص “النضال الفني هو إحدى أصعب حالات المقاومة الفنية، لأنك تصارع مجتمعات كاملة. كتبت منذ أيام ‘بوست’ قلت فيه إن الدول تهتم بالثقافة لأنها تسعى بها نحو التطور. في الثقافة تطور، والثقافة تعني صناعة الإنسان، هي مقولة ليست جديدة لكنني أحببت أن أكرسها. أنا مصرّ على تقديم هذه المواد في ظل كل الضخ الإعلامي الذي يقدم للبديل، على الأقل لتقديم شيء له علاقة بهؤلاء الشباب؛ لأنني مؤمن بأن هؤلاء يمكنهم أن يصنعوا عالما جديدا جيدا وجميلا”.
ويضيف “هذا بشكل عام، ولكن في الجانب المحلي نحن نقول إن المجتمع السوري يجب أن يخرج مما هو فيه الآن، لأن الأزمة الحالية حجبت إمكانات وطاقات هائلة من الظهور الطبيعي، ويجب أن نبدأ بتقديم هذه الأعمال بحجمها وأشيائها الجميلة، ودعم الدولة لهذه الطاقات بتبني مشاريعها سيعيد للناس بهجتهم وللبلاد بهجتها وألقها السابق، ويعود بسوريا إلى مركزهاالفني الريادي الحقيقي في الوطن العربي”.