العثور على رواية عربية جيدة أصبح ضربا من المستحيل

القراء يطورون إستراتيجيات دفاعية للتعامل مع أزمة السوق الثقافي العربي.
الثلاثاء 2025/06/10
القراء العرب أمام وضع معقد ومربك

يتفق المهتمون بالشأن الثقافي في أغلب الأقطار العربية على وجود خلل في منظوماتنا الثقافية، وعلى رأسها صناعة الأدب، بداية من الكاتب مرورا بالناشر ثم القارئ ثم الناقد، الذين تجمعهم علاقات مهتزة تخضع للمجاملات وغياب النقد والحوار، وتغرق بالتالي في إنتاج ثقافة الخوف والجمود بدل التنوير والتطوير.

لم أعد قادرا على خوض مغامرة القراءة لأسماء لم أقرأ لها من قبل.

إن هذا الاعتراف بالعجز عن خوض مغامرة القراءة لأسماء جديدة لم تمر عبر مرشحات التجربة الشخصية المسبقة، هو اعتراف مؤلم يحمل في طياته إقرارا ضمنيا بانهيار منظومة الاكتشاف والفرز الثقافي، التي شكلت لسنوات، بل لعقود، العمود الفقري لعلاقة صحية بين المنتج الأدبي وجمهوره المفترض.

هذا الاعتراف يكشف عن أزمة بنيوية عميقة في طبيعة الحقل الثقافي العربي المعاصر، حيث تتداخل اعتبارات اقتصادية واجتماعية وسياسية لتخلق واقعا مشوها يحول فيه فعل اختيار رواية للقراءة من متعة الاكتشاف الفكري إلى مقامرة محفوفة بالمخاطر المالية والنفسية على السواء.

أزمة عميقة

كل آليات الفرز التي كانت تقوم، تاريخيا، بوظيفة الوساطة الثقافية بين الكاتب والقارئ في انهيار تدريجي منظم

تمتد جذور هذه الأزمة عبر شبكة معقدة من التحولات الجذرية التي مست بنية الإنتاج الثقافي العربي وآلياته، وأبرز هذه التحولات هو الوفرة المفرطة، حيث انتقل الإنتاج الروائي العربي من محدودية الإنتاج السنوي التي ميزته لعقود، إلى حالة من الطوفان الكمي الذي يغمر الأسواق الثقافية على مدار العام بتدفق مستمر من العناوين الجديدة.

هذا التحول، الذي قد يبدو في ظاهره إنجازا ثقافيا يستحق الاحتفاء، يخضع في حقيقته لقانون طبيعي قاسٍ يحكم كل انتقال من الندرة إلى الوفرة: كلما ازداد الكم، هيمن الرديء على النوعي، وغاب المميز في بحر عارم من العادي والضعيف والمبتذل، ليصبح العثور على النص الذي يستحق فعلا عناء القراءة والتأمل أشبه ما يكون بالبحث عن جوهرة نادرة تحت طبقات من أكوام هائلة من الحصى والتراب.

لكن المشكلة الحقيقية التي تكمن في عمق هذه الأزمة لا تتوقف عند حدود الكم والكيف، بل تمتد لتشمل الانهيار التدريجي والمنظم لكل آليات الفرز التي كانت تقوم، تاريخيا، بوظيفة الوساطة الثقافية بين الكاتب والقارئ، تلك الآليات التي شكلت لعقود طويلة خارطة طريق موثوقة للقراء الباحثين عن الأعمال الجديرة بالاهتمام والاستثمار الفكري.

إن النقد المتخصص، الذي كان يمثل البوصلة الأساسية للتوجيه الأدبي، تحول تدريجيا من أداة تقويمية مستقلة إلى جزء من منظومة أوسع للترويج الثقافي المقنع، حيث تتداخل المصالح الشخصية والمهنية والاقتصادية لتحول النقد من وظيفته الأساسية في الكشف والتمييز، إلى نوع من الكتابة الإنشائية التي تتجنب إصدار أحكام واضحة وحاسمة، أو تتحول إلى محض أداة دعائية تخدم شبكات معقدة من المصالح أكثر مما تخدم القارئ الذي يبحث عن إرشاد صادق وموثوق.

في هذا السياق، تبرز الجوائز الأدبية كمثال صارخ على كيفية تحول آليات التقييم الثقافي من أدوات للتمييز والاكتشاف إلى مؤسسات للهيمنة الناعمة والتوجيه المقنع. هذه الجوائز، التي تقدم نفسها كحكم نهائي على الجودة الأدبية، تخضع في الواقع لشبكة معقدة من الاعتبارات السياسية والاقتصادية والشخصية التي تحول عملية الاختيار إلى لعبة محكومة بقواعد خفية تراعي كل شيء ما عدا القيمة الأدبية الخالصة.

اختيار رواية جيدة أمر صعب
اختيار رواية جيدة أمر صعب

إن هذه المؤسسات، بما تملكه من قوة رمزية هائلة في تشكيل الذوق العام وتوجيه اختيارات القراء، تمارس نوعا من الرقابة الناعمة على الإنتاج الثقافي، حيث تصبح معايير الفوز غير المعلنة بمثابة قواعد ضمنية تحكم عمليات الكتابة والنشر، وتشكل توقعات الكتّاب والناشرين حول نوع الأعمال التي قد تحظى بالاعتراف والانتشار.

إن دور النشر، التي كانت تلعب تاريخيا دور حارس البوابة للجودة الأدبية، تحولت إلى محض مؤسسات تجارية بحتة يحكمها منطق السوق والربح السريع، حيث صار الهم الأساسي هو تحقيق أعلى عدد ممكن من المبيعات من خلال نشر أكبر عدد ممكن من العناوين، دون اعتبار حقيقي للقيمة الأدبية أو الثقافية للمحتوى المنشور.

هذا التحول لا يعكس مجرد انحطاط في المعايير المهنية أو تراجعا في الوعي الثقافي عند الناشر، بل يكشف عن أزمة هيكلية عميقة في السوق الثقافي العربي برمته، حيث محدودية الجمهور القارئ وضعف القدرة الشرائية للفئات المهتمة بالثقافة يدفعان المؤسسات الناشرة إلى تبني إستراتيجيات قصيرة المدى تركز على الكم والانتشار السريع على حساب الاستثمار طويل المدى في الكيف والجودة.

أما الصحافة الثقافية، التي كانت تمثل المنبر الأساسي للتوجيه النقدي والحوار الأدبي الجاد، فقد تراجعت هي الأخرى إلى مساحة للمجاملات الاجتماعية والترويج التجاري المقنع، نتيجة للعلاقات المعقدة والمتشابكة بين دور النشر والمنابر الإعلامية، والضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تواجهها هذه المنابر في عصر الأزمة الاقتصادية للإعلام التقليدي وهيمنة المنصات الرقمية، فصرنا إلى تحول النقد من وظيفته التقويمية الأساسية إلى أداة للدعاية والترويج، وفقده بالتالي مصداقيته كدليل موثوق للقراء الباحثين عن التوجيه الصادق. كما أن تقلص المساحات المخصصة للثقافة في الصحافة العامة، وإغلاق العديد من المنابر الثقافية المتخصصة، يعكسان تراجعا أوسع في المكانة الاجتماعية للثقافة والأدب في المجتمعات العربية المعاصرة.

منظومة ثقافية صحية

النقد الأكاديمي انغمس في متاهات التنظير المفرط والانفصال التام عن هموم القارئ العادي واحتياجاته الفعلية
النقد الأكاديمي انغمس في متاهات التنظير المفرط والانفصال التام عن هموم القارئ العادي واحتياجاته الفعلية

في المقابل، انغمس النقد الأكاديمي في متاهات التنظير المفرط والانفصال التام عن هموم القارئ العادي واحتياجاته الفعلية، حيث معظم النقاد الأكاديميين، المنشغلين بإثبات إلمامهم بأحدث النظريات النقدية الغربية وقدرتهم على تطبيقها على النصوص العربية، يقاربون الأعمال الأدبية كحقول تجريب للمفاهيم النظرية المجردة، دون اهتمام حقيقي بتقديم إرشادات عملية وقابلة للتطبيق للقراء العاديين الباحثين عن أعمال جديرة بالقراءة والاستثمار الفكري.

هذا الانفصال خلق فجوة واسعة ومتنامية بين النخبة الثقافية الأكاديمية والجمهور الواسع، حيث أصبحت الدراسات النقدية المتخصصة، رغم ما قد تحمله أحيانا من قيمة معرفية، عاجزة عن لعب أي دور إرشادي حقيقي في توجيه اختيارات القراء أو تشكيل الذوق العام.

في ظل هذا الانهيار المنظم لكل آليات الوساطة الثقافية، تطورت لدى القراء إستراتيجيات دفاعية مختلفة للتعامل مع هذا الواقع المعقد والمربك. انكفأ البعض، كما فعلت، على الأسماء المجربة والموثوقة، في محاولة لتجنب مخاطر الخيبة والإحباط، لكن هذا الخيار، رغم براغماتيته الواضحة، يحرم هؤلاء القراء من فرصة اكتشاف أصوات جديدة قد تكون مميزة ومثيرة للاهتمام.

آخرون لجؤوا إلى تكوين شبكات ثقة ضيقة من الأصدقاء والمعارف ذوي الذائقة المشتركة، وهو حل عملي وفعّال في حدوده الضيقة، لكنه يكرس نوعا من الشللية الثقافية التي تحد من تنوع التجارب والاكتشافات. وهناك فئة ثالثة تعتمد على الصدفة والحظ في اختياراتها، مما يجعل تجربة القراءة أقرب إلى المقامرة منها إلى الاختيار المدروس والواعي.

لكن المشكلة الأعمق تكمن في غياب ثقافة النقد الصريح في مجتمعنا الثقافي العربي، حيث يهيمن الخوف من النقد المباشر لتجنب إيذاء المشاعر أو تجنب صنع العداوات، مما أنتج ثقافة مجاملة ونفاق ثقافي تحول دون تطوير معايير نقدية شفافة. هذا الخوف الجماعي، المتجذر في بنية اجتماعية تقدس العلاقات الشخصية على حساب المعايير الموضوعية، يضر بجودة الخطاب النقدي ويحرم الكتّاب من تقييمات صادقة تساعدهم على التطوير، ليكرس في النهاية ثقافة الرضا عن الذات التي تقف عائقا أمام تطوير الإنتاج الثقافي والأدبي.

إن هذا التشخيص لا يهدف إلى تكريس اليأس، بل إلى تحديد التحديات الحقيقية التي تتطلب مواجهة صريحة قبل تطوير إستراتيجيات فعّالة للتجاوز. فعندما يصبح العثور على عمل أدبي جيد أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، فهذا يعني وجود مشكلة جذرية في آليات الإنتاج والتوزيع والتقييم تتطلب حلولا شاملة وليس مجرد ترقيعات سطحية.

الخروج من هذه المعضلة يتطلب اعترافا جماعيا بوجودها وخطورتها على مستقبل الثقافة العربية، وجهدا منسقا لإعادة بناء منظومة ثقافية صحية تقوم على الشفافية والمعايير الموضوعية. لكن الأهم هو المحافظة على الإيمان بأن الأعمال المميزة موجودة فعلا وسط هذا الطوفان، وأن السبيل إليها يبقى ممكنا إذا طورنا إستراتيجيات أذكى في البحث والاكتشاف، وساهمنا جميعا في إعادة بناء ثقافة نقدية تحمي الأدب الحقيقي من آليات الهيمنة الناعمة التي تسعى لإخضاعه لمنطق السوق والمصالح الضيقة.

12