العبادة المعطّلة

حتى أعوام قليلة مضت، كان الباحثون عن العمل، وإن طال المطال بهم، لا يجدون كبيرَ عناءٍ في العثور على وظائف ثابتة أو مؤقتة، حتى لو كان ذلك في غير التخصّصات التي درسوها، أما اليوم فقد اختلف الوضع يا عزيزي الشاب الباحث عن عمل، فلا يكفي في هذا الوقت أن تكون صاحب كفاءة، ومستوفيا للشروط ولديك واسطة وإطلالة وسيرة حسنة. بل إن هناك مهمّة أخرى عليك أن تجيد القيام بها لا مفرّ منها، هي دراسة السوق.
هذا جديد علينا، لكنه شائع في العالم منذ أن تعددت فيه وسائل الإنتاج وصارت أكثر تطورا، بالتوازي مع تطوير قوانين الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، حتى لو كانت ”رشّة بهار“، فقد تصبح يوما ماركة عالمية مسجلة كما حصل مع عمالقة الوجبات السريعة في العالم.
ادرسِ السوق إذاً، فشُحّ الفرص، وانخفاض الأجور، وآثار الضربات العنيفة التي تلقتها السوق خلال الأعوام الماضية، من سنوات الاحتجاجات في العالم العربي، إلى الحروب، إلى وباء كوفيد، إلى عاصفة بوتين الأخيرة. كل ذلك غيّر قواعد اللعبة.
قرأتُ قبل أيام أن أكثر من ثلثي أصحاب العمل في المنطقة العربية لديهم توجّه إلى تشغيل موظفين إضافيين هذا العام، حسب مؤشر فرص العمل الذي يتبع لموقع “بيت.كوم” بالتعاون مع ”يوغوف“ والذي بيّن أن وظائف مثل مهنة المحاسب تشكّل ما نسبته 17 في المئة من سوق العمل، أما مندوب ومدير المبيعات والتسويق فمطلوب بنسبة 14 في المئة، لكن عرش المهن تربّع عليه مجال الترفيه فكما تعلم نحن أحوج ما نكون الآن إلى التسلية.
لا ينكسر خاطركَ كثيرا. بالطبع حين لا تُنتج سيصبح دورك أن تبيع ما ينتجه الآخرون، وستكون أنت من يشتريه أيضا مع جارك وزوجتك وابنك وكل من حولك.
يجب أن يُمعن الإنسان العربي النظر بمفهوم العمل ويُعيد التفكير فيه، فقد كان يصدمنا في الماضي أن نجد أستاذا جامعيا يقودنا إلى مواعيدنا كـ”سائق تاكسي“ أو مهندسا يعمل ”جرسونا“ في مطعم، وسبب ذلك أن تصوّرنا عن العمل ما يزال مرتبطا باعتبارات لا علاقة لها بالهدف من العمل ذاته، مع أن جميع أنبيائنا كانوا قد رعوا الغنم في صباهم، والعمل عندهم كان ”عبادة“، أما نحن، فنجعل العبادة شيئا آخر، ونربط العمل بالمقام الاجتماعي والبرستيج بدلا من تحفيزه بأهم ما يتحكّم به؛ الإبداع.
وهاهي السوق تضغط عليك لتفكّر خارج صندوق الأرقام المزعج ذاك، ومناخٌ مثل هذا هو المناخ الملائم للعقل العربي كي يُبدع، لأنه على ما يبدو لا يشتغل في الظروف الطبيعية المرتاحة، بل تحت الضغط والرصّ والعصر والتنشيف والنشر على كل حبال الغسيل.