العالم الرقمي أدخل المسرح المصري إلى لعبة الاستهلاك والسيولة

عبدالكريم الحجراوي: المسرح الاستهلاكي مبالغات هزلية وأحداث عشوائية ونكات.
الأحد 2022/09/11
استعانة بالنجوم في مسرح استهلاكي

أحدث العالم الرقمي الذي بات جزءا أساسيا من واقع كل الشعوب تغييرات جذرية في كل المجالات، ونركز هنا على المجال الثقافي وتحديدا الفن المسرحي، الذي ساهمت هذه المنصات بشكل مباشر أو غير مباشر في تحوير خطابه والذهاب به إلى سمات قد تحقق له الجماهيرية ولكنها تفرغه من عمقه.

التحولات التي طرأت على بنية الخطاب المسرحي المعاصر في عملية إرساله/ إنتاجه من قبل منتجي هذا الخطاب، وفي عملية التلقي/ الاستقبال من قبل الجماهير في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت جزءًا من حياتنا المعاصرة وتشكل الوعي الجمعي للكثيرين، كانت محور المداخلة التي ناقشها الناقد المسرحي عبدالكريم الحجراوي ضمن الدورة الـ29 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وفي إطار محوره “التجريب المسرحي والتطور التكنولوجي”.

ركز الحجراوي في دراسته المعنونة بـ”بنية خطاب الإرسال وتشكلات التلقي في المسرح المعاصر: دراسة في تأثير المنصات الرقمية” على رصد أهم هذه المؤثرات في ظل ما يطلق عليه تيار ما بعد الحداثة الذي ظهر في الغرب وامتد صداه إلى العالم كله بفضل التكنولوجيا الحديثة التي حولت العالم إلى مجتمع صغير، وألغت الحدود والمسافات بين الدول والثقافات مما أسهم في زيادة وتيرة تحويل الخطاب المسرحي إلى الاستهلاكية، وخلقت حالة من السيولة في الأحكام النقدية وكذلك في الخطابات الفنية المقدمة، وذلك في إطار بحثها الدؤوب والمستمر عن تقديم السائد وإعادة استغلال التراث، والاحتفاء بما هو يومي وعابر، والارتجال، وتسطيح الموضوعات، والتهالك على تقديم كل ما يرضي ذائقة الجماهير العريضة تحت شعار ما يرغبه الجمهور.

مسرح تجاري

مع دخول الإنترنت وتغول وسائل التواصل الاجتماعي أخذ الخطاب المسرحي بعدا تجاريا واضحا يعتمد على السطحية والتفاعل المفرغ

في رصده لأهم التأثيرات التي أحدثتها منصات التواصل الاجتماعي في الخطاب المسرحي، “التسليع، الاستهلاكية، السيولة، التعددية، التسطيح، تقديم السائد، التهكم والسخرية، انهيار السياق”، يرى الحجراوي أن تسليع الفن جاء نتيجة لدخول رأس المال إلى الفنون في عمومها والمسرح بشكل خاص وهي ليست بالظاهرة الحديثة؛ موضحا أن الأمر أخذ طابعًا مختلفًا وأكثر مباشرة مع انتشار المنصات الرقمية، التي أصبحت وسيلة لتسويق ونشر هذا النوع من الفنون.

ويبين أنه مع دخول الإنترنت وتغول وسائل التواصل الاجتماعي أخذ الخطاب المسرحي بعدًا تجاريًا واضحًا. حيث عمل رأس المال الذي لا يعترف إلا بمقياس الربح والخسارة كمعيار للنجاح على استغلال المنصات الرقمية للتسويق لمنتجه المسرحي وفقًا لواقعية السوق التي خلقتها هذه المنصات، التي تعتمد على التداول السريع لما هو يومي ومباشر، وهدم السياقات وسهولة الانتقال من تبويب إلى آخر والعمل على جذب التفاعل عبر الإبهار الفارغ من المضمون في أحيان كثيرة، وتداخل الموضوعات وتعددها دون رابط.

وقال “من هذه التجارب تجربة ‘كايرو شو’ التي روجت لنفسها في عام 2019 كأول كيان مصري لصناعة الترفيه، تعتمد على الإبهار البصري عبر الاستعانة بآليات التكنولوجيا الحديثة، واجتذاب فئة معينة من المجتمع المصري، وتعتمد في تسليعها للمسرح على نقطتين جوهريتين أولاهما الاعتماد على نصوص كلاسيكية عرفت بقوتها الفنية ومشهورة بين الناس مثل مسرحية “الملك لير” لوليام شكسبير التي قدمتها “كايرو شو” في عام 2019، إخراج تامر كرم.

 وتعتمد في الشق الثاني على نجوم من الصف الأول في السينما والتلفزيون مثل يحيى الفخراني الذي أعاد تمثيل مسرحية «الملك لير» لصالح هذه الشركة التي كان قد مثلها من قبل لمسرح الدولة، وكذلك قدم معها مسرحية بيرم التونسي “ليلة من ألف ليلة” لكن باسم “ياما في الجراب يا حاوي” في عام 2021 إخراج مجدي الهواري. وكان الفخراني قد قدم المسرحية ذاتها على المسرح القومي في عام 2015، إخراج محسن حلمي.

المسرح المصري بات يقدم خطابًا يتماشى مع جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، بل وأحيانًا يأخذ خطابه منها ويعيد إنتاجه

وقدمت “كايرو شو” مسرحيات أخرى منها مسرحية لمحمد هنيدي  “3 أيام في الساحل”. ولأحمد عز مسرحية “علاء الدين”.. إلخ. وتستغل هذه الشركة المنصات الرقمية في الترويج لهذه الأعمال خاصة وأن هؤلاء النجوم لديهم متابعون بالآلاف ويكون المسرح فرصة لرؤيتهم على الطبيعة والتقاط الصور معهم. ليقوم هؤلاء المتابعون بإعادة نشرها على صفحاتهم فيكونوا دعايات للعرض. وعادة ما تكون أسعار تذاكر هذه المسرحيات مرتفعة جدًا فقد وصل سعرها إلى 1500 جنيه وأحيانًا تباع في السوق السوداء بأرقام تفوق ذلك. ويخرج بعض هذه المسرحيات إلى ملتقيات خارجية مثل موسم الرياض الذي قدم فيه المخرج تامر كرم  مسرحية “اللمبي في الجاهلية” 2021، ووصل سعر التذكرة إلى ما يوازي 5 آلاف جنيه مصري.

وأشار الحجراوي إلى تجربة أشرف عبدالباقي “تياتيرو مصر/ مسرح مصر” التي ظهرت لأول مرة في عام 2014، وشجع النجاح الجماهيري الذي حققته على أن تستمر عروضها لستة مواسم من 2014 إلى 2019. وقال “تقدم خطابًا يتماشى مع جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، بل وأحيانًا يأخذ خطابه مما هو منتشر في هذه الوسائل ويعيد إنتاجه بصورة فكاهية. فالعلاقة بين هذه الوسائط والمسرح لم تعد من طرف واحد مرسل إلى ملتقٍ وإنما خلقت نوعًا من التفاعل القائم على الأخذ والرد. وتكيف الخطاب بما يتلاءم مع ذائقة جمهور المنصات الرقمية”.

لم يعد التلقي مرتبطًا بالحضور الجسدي إلى خشبة المسرح، تلك التجربة التي تتاح لأقلية لن تزيد عن المئات في كل عرض، وإنما أصبح جمهورها الأوسع عبر نقلها إلى شاشات التلفزيون والمنصات الإلكترونية وهؤلاء يقدرون بالملايين. مما يحمل التجربة من محيطها المكاني والزماني المحدود إلى محيط مكاني وزماني لا محدود يستطيع أن يتابعها الجمهور من أي مكان وفي أي وقت دون تقييد. وهذه المشاهدات التي يحققها تتحول إلى أرقام على المنصات من ثم إلى إعلانات ثم أموال، وردود الفعل التي تصنعها إيجابا أو سلبًا هي التي تحدد نجاح العمل من فشله بعيدًا عن قيمته الفنية.

ويلاحظ أن الخطاب الذي يقدمه هذا النوع من المسرح لا يعتمد على نص أدبي جاهز وإنما يرتكز على مجاراة الواقع اليومي والارتجال. وأنه يبحث عن الجديد باستمرار فهو لا يقدم مسرحًا كي يخلد ويستمر وتستعيده الأجيال بقدر ما هو يعايش اللحظة الراهنة وما يعرف بلغة منصات التواصل الترند فهو سريع الانتشار سريع النسيان.

الاستهلاكية والسيولة

Thumbnail

توقف الحجراوي عند “الاستهلاكية” حيث تعتمد سياسة المنصات الرقمية على جذب أعضائها للبقاء فيها لأطول فترة ممكنة. عبر آليات حديثة ومتطورة تستخدم فيها خوارزميات تستطيع تحديد ما يفضله كل مستخدم عبر نوعية المنشورات التي يضع عليها الإعجاب أو الفيديوهات التي  يشاهدها، فتقدم له هذه النوعية من الخطابات التي يفضلها أو يبحث عنها؛ لتضمن استمرارها، فهي تطبيقات استهلاكية تشيع ثقافة الاستهلاك بين روادها. ولم يبتعد الخطاب المسرحي عن هذه المتغيرات فنتيجة لتسليعه أصبح استهلاكيًا  بالضرورة معنيا بإرضاء ذائقة الجمهور المتغيرة بل ويصنع هذه الذائقة أحيانًا. وأصبح هذا الخطاب يجاري ويبحث عن الترند تلك الكلمة التي تعني في سماء وسائل التواصل الاجتماعي الأحداث الرائجة والتي تجذب انتباه أعضاء هذه الشبكات ويتبادلونها على صفحاتهم.

اللغة الاستهلاكية امتد تأثيرها إلى المسرح المعاصر بصريًا ولغويًا. فأصبح منتجوه يبحثون عما يحقق لهذا الخطاب الذيوع بين أكبر قدر من الناس. وذلك عكس ما كان يجري في فترة أدب الحداثة التي كان فيها الأديب أو الفنان يبحث عن التقاط جوهر الأشياء، وما يضمن خلود أعماله الأدبية واستمرارها. وتحت وقع التكنولوجيا وتسليع الثقافة لم تعد هناك أهمية كبرى تُولى لتقديم فن يبحث في المطلق عن الجوهري والخلود وإنما البحث عما هو يجاري اليومي، ولم يعد هناك اهتمام بالنص أو المؤلفين، وأدى ذلك في مصر على سبيل المثال إلى انتشار الورش التي تقوم بكتابة النصوص المسرحية أو حتى المسلسلات التلفزيونية، وعزز ذلك من مكانة الارتجال المتعمد.

عبدالكريم الحجراوي: تجربة "مسرح مصر" تقدم خطابًا يتماشى مع جمهور وسائل التواصل الاجتماعي

 ويظهر ذلك في خطاب الكثير من المسرحيات التي تعمل على مغازلة الجمهور بمعناه الواسع الحاضر في القاعات أو عبر الشاشات حتى بعيدًا عن المقتضيات التي يتطلبها الفن ذاته. وذلك في سبيل أن يكون الخطاب المسرحي منتجًا مرغوبًا بالنسبة إلى المستهلكين، عملا على مجاراة سوق المنصات الرقمية بالاعتماد على اللغة الشعبوية الدارجة، والموضوعات التقليدية، واختراق التابوهات بالتلميح أو بالتصريح. والاتجاه إلى كوميديا الفارس التي تتكئ على المبالغات والمؤامرات الهزلية والأحداث العشوائية غير المترابطة، وحركات الجسد، والنكات، وتوظيف العيوب الخلقية، والتناقضات الفجة. فهي مدرسة الضحك من أجل الضحك.

وناقش السيولة في الخطاب النقدي الجماهيري وأتبعها بسيولة من نوع آخر تتعلق بسيولة الموضوعات وتشظيها على المنصات الرقمية التي تجمع خضمًا هائلًا من المعلومات متنوعة المشارب والاتجاهات. لافتا إلى أن الإحصائيات تشير إلى أن هناك 51.45 مليون مصري على المنصات الرقمية من أصل 105.2 مليون مصري حتى يناير 2022. وأن إجمالي من يستخدمون الفيسبوك يبلغ 42.5 في المئة من سكان مصر، وهناك 46.3 مليون مشترك على اليوتيوب حتى بداية هذا العام بنسبة 44 في المئة من إجمالي سكان مصر، ويأتي إنستغرام بـ16 مليونا بنسبة 15.2 في المئة من السكان، وتيك توك 20.3 مليون مصري بنسبة 26.8 في المئة ثم تويتر 5.15 مليون بنسبة 7 في المئة.

ورأى أن نظرة إلى طبيعة محتويات هذه المنصات الرقمية تظهر أنها ذات طابع مفكك لا رابط بين الموضوعات المختلفة ومتنوعة المحتوى ما بين السياسي والاقتصادي والرياضي والاجتماعي والفني والثقافي.. إلخ. ولا يوجد فاصل قوي بين محتوى وآخر، تختفي فيها الوحدة الموضوعية الجامعة ذات النسق النفسي أو الفكري أو الاجتماعي الواحد وإنما هي مختلفة المشارب والأهواء والتوجهات باختلاف الأفراد المتفاعلين من مختلف بلدان العالم.

ويجسد هذا التفكك والتعدد في المنصات الرقمية سمة من أهم سمات عالم ما بعد الحداثة الذي يرى الحياة “موقفية، متشظية، سائلة، انطباعية”، فمفهوم التشظي من أكثر المفاهيم حضورًا في الفكر ما بعد الحداثي وقبولها لما هو لحظي ومتشظ ومتقطع وفوضوي. فالحياة نفسها لدى تيار ما بعد الحداثة متشظية لا تخضع لأي نوع من الوحدة والانسجام. ويفضل هذا التيار ما هو وضعي ومتعدد والاختلاف على التجانس، والمنفلت على المنظم، والمتغير على الثابت. وذلك لأن كل شيء يتسم بالتغير وعرضة للتنوع.

المنصات الرقمية والتسطيح

مدرسة الضحك من أجل الضحك
مدرسة الضحك من أجل الضحك

أكد الحجراوي أن المنصات الرقمية خلقت جيلًا يميل إلى التبسيط في كل الموضوعات، ذلك التبسيط المخل. وقد ساهمت أفكار ما بعد الحداثة التي شكلتها هذه المنصات في انتشار هذا التسطيح  بقبولها لكل شيء وتسليعها للثقافة وهو ما “فرض على الفنانين العمل وفقًا لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بعملياتهم الإبداعية الخاصة”، فأصبح الفنانون والأدباء مجبرين على العمل وفقًا لآليات السوق. وينعكس ذلك النسق الفكري على منتجي الفن بما فيه المسرح فيعملون على مجاراة الروح السائدة التي يكتسب منها العمل نجاحه، والذي يرتبط في هذا العصر بالمشاهدات الجماهرية.

 وقال “يمكن أن نحيل هنا إلى مسرحية ‘المتفائل‘ التي أعدها وأخرجها المصري إسلام إمام على المسرح القومي والتي نعدها صورة نموذجية في سعي الخطاب المسرحي لإرضاء الجمهور ربما على حساب النص نفسه، فقد استطاعت المسرحية أثناء عرضها في عام 2019 أن تحقق نجاحًا جماهيريَّا نوعيًا واستطاعت جذب متلقين مختلفين إلى خشبة المسرح القومي بعيدًا عن جمهور هذا المسرح النخبوي إلى حد ما،  فالعرض معد عن الرواية القصيرة ‘كانديد‘، التي كتبها فولتير في عام 1759، والتي سخر فيها من فلسفة التفاؤل والقول إنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، التي كان يعتنقها مجايلُه الفيلسوف الألماني ليبنتز، والتي يرى فيها أن ‘كل ما يحيط بنا هو الأفضل‘. لكن الخطاب المسرحي الذي صنعه إمام جاء على عكس ما أراده فولتير تمامًا، حيث تدعو المسرحية إلى التفاؤل بشكل مباشر وتعليمي”.

وبين أنه بينما ناقشت الرواية الأصلية العديد من القضايا مثل المساواة وحرية الاعتقاد، والمتاجرة بالدين، والنفاق الاجتماعي فقد خلا العرض من هذه القضايا؛ مما أفقد المسرحية العمق الفكري، حتى وإن جاءت هذه القضايا يكون قد أجرى لها عملية من التسطيح فتأتي بشكل عابر ولا يسلط الضوء عليها بالشكل المناسب.

تحت وقع التكنولوجيا وتسليع الثقافة لم تعد هناك أهمية كبرى تُولى لتقديم فن يبحث في المطلق والجوهري

 وزيادة في مغازلة ذوق المتلقي وإكساب المسرحية بعدًا جماهيريًا غلب عليه الطابع الكوميدي عبر التنكيت، والمحاكاة التهكمية، والتهكم اللفظي والتهكم الموقفي، والنقائص الأخلاقية، وكذلك توليد الضحك عن طريق الحركات الجسدية، واستخدام اللهجة العامية السوقية على لسان أشخاص من غير المتوقع أن يتكلموا بتلك اللهجة، والإحالة إلى أحداث رياضية تتعلق بفريقَي كرة القدم الشهيرين في مصر: الأهلي والزمالك، وحديث الممثلين إلى الجمهور في شكل يبدو عفويًا؛ لكنه في الحقيقة متعمد. هذا الجانب الكوميدي بالفعل نجح في استقطاب الأسر لمشاهدة المسرحية وأن تصطحب أبناءها إلى خشبة المسرح لمشاهدة ثلاث ساعات من الترفيه حيث استعان العرض بالأغاني والرقص والإبهار البصري في السينوغرافيا والديكور الذي يتبدل بسرعة فائقة من دون إسدال الستار أو إظلام الخشبة مع تبدل المناظر.

ولفت إلى أن لغة التسطيح تظهر بصورة أكثر مباشرة في حلقات ما يطلق عليه اسم “مسرح مصر/ تياترو مصر” بداية من الاسم البسيط العام الذي لا يحيل إلى اتجاه فني، والاعتماد على تسطيح الموضوعات التي يناقشها ثم إنهاء العرض بنصائح ووصايا تعليمية مباشرة، وغياب النص المسرحي المعد إعدادًا جيدًا. ويظهر التسطيح على اللغة ذاتها المقدمة التي تعتمد على الابتذال من أجل توليد الضحك، والاعتماد على ديكور ثابت وعدم الاستفادة من عمق المسرح والانتقال من موضوع إلى آخر دون رابط.

وقد خلص الحجراوي إلى عدد من النتائج منها أنه تحت وقع التكنولوجيا وتسليع الثقافة لم تعد هناك أهمية كبرى تُولى لتقديم فن يبحث في المطلق وعن الجوهري والخلود، ولم يعد هناك اهتمام بالنص أو المؤلفين وعزز ذلك من مكانة الارتجال المتعمد. وذلك يظهر في خطاب الكثير من المسرحيات التي تعمل على مغازلة الجمهور حتى بعيدًا عن المقتضيات التي يتطلبها الفن ذاته.

المنصات الرقمية ساهمت في زيادة اعتماد الخطاب المسرحي على الموضوعات المستمدة من التراث

وقد صنعت المنصات الرقمية حالة من السيولة النقدية والسرعة في إطلاق الأحكام. فقد منحت هذه الوسائل سلطة أكبر للمتلقي ليصنع خطابه النقدي ويعبر عن رأيه فيما يشاهده أو يقرأه ولم يعد الأمر يقتصر على المتخصصين مما جعل تقييم الأعمال الفنية يعاني من سيولة نقدية وفي أحيان كثيرة يفتقر إلى الأسس والضوابط والأدوات التي تمكن من إعطاء رأي أو حكم صحيح باتجاه الأشياء. وأصبح هذا الخطاب النقدي مرتبطًا بأهواء كل شخص وهويته الدينية والأيديولوجية والسياسية والثقافية والبيئية والمجتمعية التي ينتمي إليها. فهو نقد في غالبيته انطباعي. وتتسم هذه الخطابات عادة بالحدية بين الإشادة الكبيرة بالعمل والإعجاب به أو الحط منه والتقليل من شأنه. ثنائية بدائية تقسم العالم إلى خير وشر، أبيض وأسود، جميل وقبيح…إلخ.

كما ساهمت المنصات الرقمية في زيادة اعتماد الخطاب المسرحي على الموضوعات المستمدة من التراث وميل صناع الخطاب إليها سواء لضعف الطاقات الإبداعية للفنان المعاصر وعدم قدرته على إنتاج الجديد أو نتيجة لتحول التراث بصوره المختلفة بعد تسليعه إلى عنصر من عناصر جذب المتلقين.

وأشاعت هذه المنصات الرقمية المحتوى الكوميدي الساخر من الأعمال الفنية القديمة حيث تتم إعادة إنتاجها بعد انتزاعها من سياقها التاريخي، ما يزيح عنها الهالة الفنية التي كانت تحيط بها والتقدير الذي كان يعامل به العمل عبر التهكم والسخرية من مضمونه القديم فيما يعرف بكسر هالة الفن.

13