العالم الافتراضي ينذر بالكارثة.. فهل يمكن للبشر تجنبها

ميتافيرس مشروع يحول الإنسان إلى لعبة لدى الشركات العملاقة.
الخميس 2021/12/23
تصور حالم ومرعب في آن

عند بداية الجائحة ولجوء الناس في شتى أصقاع الدنيا إلى الحجر الصّحّي، الذاتي أو المفروض بسلطة القانون، قرأنا من يمتدح التكنولوجيات الحديثة التي ساعدت كل القابعين في بيوتهم على تحمل الأزمة وعدم قطع الصلات الاجتماعية، وحتى المهنية، وينسى أن الصناعة الثقافية والتكنولوجيات الرقمية وجدت في ذلك الوضع فرصة لجعل الناس في موضع المشاهد الذي يتابع ما يجري عبر شاشة آلته، والتفكير في جعل ذلك الوضع قائما على الدوام.

خلال الجائحة، منحت سيطرة التكنولوجيات المطّردة على المعيش اليومي مؤسس فيسبوك دفعا جديدا فأعلن عن مشروع ميتافيرس الذي استوحاه من عوالم “السوبربونك” ليدفع بالتجربة التفاعلية إلى أقصاها، وبشر رواد ذلك الفضاء الافتراضي بأن في استطاعتهم مستقبلا أن يجتمعوا ويتلاقوا ويعملوا وحتى يستهلكوا وهم جالسون أمام شاشاتهم.

وأمام ما يعيشه العالم من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وخاصة صحية مع تزايد تحولات فايروس كورونا واشتداد مخاطره الراهنة والقادمة، يبدو مشروعه مثل واحة وسط عالم لا يني يتصحّر ويختنق بسبب الاحتباس الحراري. تماما مثل فيلم ستيفن سبيلبرغ “ريدي بلاير وان” (اللاعب رقم واحد جاهز) الذي يصور مجتمعا غائصا في واقع افتراضي فيما تزداد البيئة اختلالا والشعوب فقرا.

إلغاء الشك

هيمة شركات التكنولوجيا العملاقة
هيمة شركات التكنولوجيا العملاقة

هذا المشروع، حسب أهل الاختصاص، يمثل التقاء رغبتين قويتين: رغبة الهيمنة لدى الشركات التكنولوجية العملاقة، ورغبة الفرد المعاصر التي تكاد تنحصر في عيش تجارب ترفيه وترويح عن النفس حسب الطلب. ما يوحي في الظاهر بأننا إزاء عالم سوف تصبح فيه كل مشكلة قابلة للحل، وأن ما كان مجرد تخييل معقد سوف يغدو خاضعا لنظريات وظيفية وتطبيقات عملية، دون الأخذ بعين الاعتبار الأعمال الديستوبية التي حذرت من مثل تلك المشاريع التي ترهن مصير الإنسان وحتى مصير الأرض التي يعيش عليها، فزوكربيرغ لا يعد بتطوير تقنيات موقعه الطاغي، بل صار يبشر بعالم جديد، حيث الحياة أطول والعيش أطيب، مؤكدا أن “البشر يمكن أن يغيروا هذا العالم الذي نعيش فيه إلى عالم آخر، مختلف تماما، عالم سوف يخلقونه بأنفسهم”.

هذا التصور الحالم والمرعب في آنٍ يخالف الواقع الذي فُرض على عدد غفير من البشر، لاسيما أثناء الجائحة، أي واقع متفرجين سلبيين عاجزين، كأنهم أمام فيلم من أفلام الرعب أو الكوارث، ذلك أن الأزمة الصحية كانت فرصة للوقوف على الفجوة بين عرض فرجوي متسارع، وبين ترقّب بطيء مليء بالشكوك. ففي تلك الأشهر التي تراجع فيها النسق السريع لشتى الأنشطة في العالم، ازداد الارتهان إلى التكنولوجيات، والصور والسرديات التي تحملها، سرعة واتّساعا، ووقعت أزمنة السياسي والعلمي والطبي في قبضة ذلك النسق، فقضت على أنفسها بالصمت والترقب، وأغرقت الفرجةُ الإعلام.

إن ما يلاحظ اليوم، حتى قبل هذه الأزمة الصحية التي ما انفكت تتطور نحو الأسوأ، أن موقعنا صار في الغالب موقع متفرجين، منشدّين إلى الشاشات بأنواعها حتى الإعياء، حيث يمر العالم أمامنا بأزماته المتلاحقة، وأصبح أفق انتظارنا يتكيّف حسب إيقاع الأفلام والمسلسلات التي تتجدد بلا نهاية، وأنظارنا مرهقة بجماليات الكوارث.

والأخطر من ذلك أنها صارت، بما تغرسه في مخيالنا من رؤى، تعمق فينا الاعتقاد بأن ما تبثه سيحدث إن آجلا أو عاجلا، وكأنه قدر محتوم. فأغلب ما يبث عبر سائر الشاشات، وفق جماليات هوليوودية، كأن الغرض منه جعل المشاهد في وضع شكّ دائم حول مصيره، ومصير البشرية قاطبة، تمهيدا لإلغاء حكمه الشخصي. ففي عصر الخطاب المتواصل، لم يعد ثمة مجال للشك، إذ لا بد أن تلبّى رغبة الفرد بفضل حشد الصور والمرجعيات المشتركة المأخوذة من الأفلام أو من ألعاب الفيديو، بوصفها علامات تعارف واعتراف متبادل وتلاق.

فما الحيلة في عالم تغزوه عدة تصورات كارثية كانت الصناعة الثقافية سبّاقة إلى التحذير منها؟

القدر المحتوم

Thumbnail

يجيب نيكولا ليجي أستاذ الفلسفة بفلورنسا: ليس أمامنا إلا أن نفتح آفاقا جديدة وإمكانيات تملّك لسرديات مغايرة كي نجنب أنفسنا المراوحة بين الاستنكار واللامبالاة. ويستحضر كتاب “الغرق بحضور الجمهور” للفيلسوف الألماني هانز بلومنبيرغ، وحفره في جينيالوجيا الغرق، ومَشهَده، والملاحة البحرية في الفلسفة والعلوم، ويتساءل عن المعنى الذي تحمله تلك الاستعارة في القرن الواحد والعشرين، نظرا لحضورها الدائم سواء على مستوى البيئة أو على مستوى السيبرنيطيقا أو في شتى موجات الجائحة، فضلا عن الإبحار المعهود، في اليمّ أو في الشبكة العنكبوتية. آثار تلك الاستعارة هي من علامات الزمن الحاضر حسب رأيه.

ولكن في عالم يقوم أساسا على الملتيميديا، يفترض أن ينشأ نوع من القلق، ويظهر كما في الأفلام مَن يكشف الستر ويفضح المخفيّ، حيث يتوصل الضعاف إلى إماطة اللثام عن الأقوياء، وإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي. فقد تجد المخاوف العميقة والمكابدات المشتركة فضاء كي يبتكر الإنسان مشهدية منافسة، ويخلق سرديته الخاصة، ويضفي على العالم معنى غير الذي تريد الشركات العملاقة فرضه.

موقعنا صار موقع متفرجين منشدّين إلى الشاشات بأنواعها حتى الإعياء حيث يمر العالم أمامنا بأزماته وكأنها قدر

 غير أن الواقع عكس ذلك، فالناس عاجزون عن مسايرة سباق المعلومة، حائرون أمام تكاثر الصور عن العالم والذات، ولا مجال عندئذ كي يكونوا مبتكرين أو منتصرين في وجودهم الذي لا ينفك يشهد التفقير والاستلاب، ولا عزاء لهم إلا بالقناعة بموقع المتفرج والرضا بأنهم يشاركون في الفرجة بواسطة رد الفعل، أو التفاعل، أو الاحتفاء بالذات في إخراج نرجسي يوهم بالنجاح، فيما هو تعبير عن شعور بالعجز وفقدان الحس.

 والشركات العملاقة تعرف أن مشاريعها لا يمكن أن تحقق الرفاه لكامل البشر، وأن منتوجاتها وبرامجها ستكون حكرا على مجتمعات دون أخرى، ما يعني أنها ستعزز التفاوت وتعمق الهجرة، وتفتح أبواب نزاعات لا تنتهي، بين من يملك ومن لا يملك بُسُط الريح التي تقود إلى الجنة الموعودة.

في وضع من سماته وجود الإنسان في زمن غير إنساني يقع بين آلة تخطط لما ليس وراءه غير الانهيار أو الغرق، وأرض تشهد أزمات متضافرة، إيكولوجية وحضارية واقتصادية واجتماعية وصحية، يبدو المستقبل مهدّدا بتسارع التكنولوجيات والاستنفاد الإيكولوجي، والنزوع نحو عصر من الفوضى لا يُعرف مآله. فهل يعني ذلك أن ليس للإنسان إلا الخضوع للأمر الواقع، وانتظار الكارثة انتظاره للقدر المحتوم؟

يقول نيكولا ليجي: إذا اعتمدنا استعارة بلومنبيرغ، فإن التفكير في سرديات بديلة قد تكون ألواحا لرأب التصدعات التي أحدثتها عواصف هذا الزمن بالسفينة، سفينة الوجود الإنساني، حتى نقاوم أنساق الاستهلاك المفرط وإيقاع العصر المتسارع، ونحد من شراهة هذه الشركات العابرة للقارات. سرديات ترفض تفقير التجربة الإنسانية، وسدّ أفقها.

13