العازفة المصرية رانيا يحيى: آلة الفلوت اختارتني بالصدفة وصارت عشقي الأبدي

غالبا ما ننظر إلى المبدع من خلال إبداعه فحسب، وقليلا ما نلتفت إليه كشخص له حياة خاصة، إلا من باب حب الاطلاع السريع والمتسرع الذي يبحث عادة عن الأسرار أو حتى الفضائح، لكن حياة المبدعين الشخصية غاية في الأهمية لفهم إبداعهم، حيث يمكن من خلال التعرف على وضعياتهم العائلية ونشأتهم ودراستهم وطبائعهم أن نفك شيفرات إبداعهم. “العرب” كان لها هذا الحوار مع عازفة الفلوت والناقدة المصرية رانيا يحيى، التي ندخل معها عوالم طفولتها وبيتها وأطفالها وفنها، للكشف عن الوجه الخفي للفنانة.
البعض يلقبها بفراشة الفلوت والبعض الآخر يلقبها بملكة النغمات، إنها عازفة الفلوت المصرية الدكتورة رانيا يحيى، التي لا تكتفي بكونها عازفة، بل إنها أيضا ناقدة وكاتبة ورئيسة قسم فلسفة النقد الفني في المعهد العالي للنقد، وفي هذا الحوار تحاول “العرب” الإطلالة على عوالمها الفنية ورؤاها الفكرية والنقدية وخفاياها الشخصية.
العرب: اليوم لديك فرقتك الموسيقية الخاصة التي تُحيين من خلالها حفلاتك الخاصة، بالإضافة إلى كونك عازفة في فرقة أوركسترا القاهرة، ورئيسة قسم فلسفة الفن في أكاديمية النقد للفنون، وعضو بالمجلس القومي للمرأة الذي تتابعين فيه عن قرب نشاطاته، كيف تجدين الوقت لكل ما سبق؟
رانيا يحيى: في الواقع الأمر يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسية، في مقدمتها التوفيق من الله سبحانه وتعالى، والعامل الثاني هو القدرة على تنظيم الوقت وفق جدول زمني، أما العامل الثالث بالنسبة إليّ والذي أعتبره سرّ نجاح أي شخص في عمله، فهو الحب، فحب الإنسان لعمله، وإيمانه واقتناعه به، والأهم من كل ذلك إخلاصه في تأديته، كما أن هذا الحب بدوره يساعدنا على تنظيم الوقت.
الطفولة والموسيقى
العرب: لديك شقيقة موسيقية، وحاليا ولداك، يحيى وفريدة، ورغم نعومة أظفارهما، يرافقانك في معظم حفلاتك الخاصة، فهل دخولكم إلى عالم الموسيقى يرجع إلى عوامل وجينات وراثية في العائلة؟
رانيا يحيى: الجينات الوراثية تعتبر عاملا أساسيا وكبيرا في خلق الموهبة داخل الأطفال، كما أن مناخ المحيط يؤثر فيهم بشكل كبير، وأعتبر أن يحيى وفريدة محظوظان، لأنهما نشآ وعاشا ضمن أسرة فنية، بينما أنا لم أكن أعيش ضمن أسرة فنية، فوالدي كان رجلا عسكريا ووالدتي شاعرة، ولكنّ كليهما متذوق للفن أيضا، وكنت أنا وأختي رشا أول من ظهرت لديه بوادر الفن في العائلة.
الفنون كلها تكمل بعضها البعض، والنظرة النقدية أفادت الفنانة كثيرا حتى في تقييمها لحفلاتها واختيارها لبرامجها
طيلة فترة حملي سواء بيحيى أو فريدة كنت أقوم بالمشاركة في حفلات مع أوركسترا أوبرا القاهرة، كما أنني كنت أصطحبهما معي منذ سن مبكرة جدا تقريبا، بعمر السنتين، وخاصة إلى البروفات العامة، ليسمعا العزف، وليشاهدا عروض الباليه والأوبرا أحيانا، وهذا ما عزز لديهما إحساسهما بالموسيقي وموهبتهما.
بالإضافة إلى أنه ومنذ كانا صغيرين توفرت لديهما في المنزل بعض الآلات الموسيقية، فكان متاحا لهما البيانو وآلة الفلوت، وكان يحيى الذي يبلغ اليوم 16 عاما من عمره قد شاركني لأول مرة في حفلة موسيقية، وكان حينها يقارب عمره الست سنوات فقط، ورغم أنه كان يتوفر في المنزل (كمنجات ثمن وربع) إلا أن يحيى اختار حينها أن يكون عازف فلوت مثلي، ولأن آلة الفلوت عادة ما تكون طويلة وحجمها كبير وخاصة بالنسبة إلى الأطفال المبتدئين، أحضرت له “البيكولو فلوت” أي الفلوت الصغير، لكي يتمكن من العزف عليه، ثم توالت الحفلات التي شاركني فيها، ولاحقا تدرب على يد خبيرة جورجية، وعزف بشكل محترف على البيانو، وحصل على عدة جوائز، ثم في المدرسة تعلم على “الاكسليفون”، إلى أن عشق أخيرا “الماريمبا”.
أما بالنسبة إلى فريدة والتي تبلغ اليوم الـ12 من عمرها، فقد بدأت أيضا العزف في سن مبكرة، وشاركت معي لأول مرة وكانت تبلغ 7 سنوات، ولكنها أرادت أن تعزف على آلة “البيكولو فلوت” ليس أسوة بوالدتها ولكن تقليدا لأخيها يحيى، وعزفت فعلا على تلك الآلة، إلى أن اتجهت لاحقا إلى العزف على “الكمنجة”.
وأنا أرى أن الموسيقى بذاتها مهمة جدا في حياة الإنسان لأنها ترتقي بالنفس وتهذب الروح وتجعل الإنسان يعيش في حالة من السمو النفسي وحالة من الرقي حتى في تعامله مع الآخرين، وأنا جد سعيدة بأن أولادي يعزفون الموسيقى لأنها في نظري هي الحياة.
العرب: وماذا عنك، كيف ولماذا اخترت آلة الفلوت؟
رانيا يحيى: لم تكن آلة الفلوت من اختياري، بل كان في نيتي أن أتابع دراسة البيانو الذي كنت قد بدأت بتعلمه في المدرسة، وكنت أعتقد أنه من الطبيعي أن أتابع دراستي فيه، لكن عمري البالغ حينها 12 عاما، اعتبره الأساتذة في امتحان القبول لدخول المعهد كبيرا، ومن الصعب أن يجعلني في المستقبل عازفة محترفة بشكل كاف، وخصوصا أن الالتحاق بالمعهد لدراسة آلة البيانو، يشترط فيه على الطالب ألّا تتجاوز سنّه الثامنة أو التاسعة، حينها قررت اللجنة ونظرا إلى مواصفاتي الجسمانية وعمري أن ترشح لي آلة الفلوت.
وطبعا حينها لم أكن أعرف شيئا عن تلك الآلة، كما كل المصريين والعرب، الذين لا يملكون معرفة ودراية موسيقية كافية بالآلات الموسيقية الكلاسيكية المتوفرة ضمن الأوركسترا، فقاموا بتعريفي على آلة الفلوت، وكنت حزينة بعد أن عرفت أنها آلة نفخ، ولكن بعد أن شاهدتها وسمعت صوتها من قبل عازف، شعرت مباشرة بأنها جميلة ورقيقة جدا، ليس فقط من حيث الشكل بل أيضا من حيث الصوت، وشعرت أن أنغامها تشبه أصوات الطيور الرقيقة، فهي أشبه بزقزقة عصفور أو تغريدة كروان إن صح التعبير.
واليوم تعتبر آلة الفلوت بالنسبة إليّ، محور حياتي وعشقي الأبدي، وأنا سعيدة جدا بهذا الاختيار وممتنة لأساتذتي الذين وضعوني على أول الطريق واختاروا لي الآلة الموسيقية التي تناسب شخصيتي.
بين الكلاسيكي والشرقي
العرب: بدأت مؤخرا تقدمين مقطوعات شرقية في حفلاتك بالإضافة إلى المقطوعات الكلاسيكية، ما هو السبب؟
رانيا يحيى: اختيار برامج الحفلات يتوقف على مكان الحفل والجمهور الذي سيُقدّم له الحفل، بالإضافة إلى أننا كخريجين من الكونسرفاتوار، بدأنا حفلاتنا “الصولو” المنفردة بتقديم الأعمال الكلاسيكية، لكن طبيعة الجمهور الشرقي ليست قريبة بشكل كاف من الموسيقى الكلاسيكية، فهو لا يتذوّقها كثيرا، أو ربما لا يفهمها بشكل جيّد، وغالبا ما يكون هناك حاجز بينه وبينها، من هذه النقطة بدأت أفكر في إدراج بعض المقطوعات المأخوذة من مؤلفين موسيقيين يكتبون في الإطار الكلاسيكي، ولكن لديهم روح الميلودي الشرقية، مثل الفنان عمر خيرت والدكتور راجح داوود والدكتور علاء الدين مصطفى والدكتور جمال سلامة.
وعندما بدأت أمارس هذا النوع من الموسيقى ضمن برنامج الحفل، وجدت أن الجمهور قد بدأ يتذوق آلة الفلوت بشكل أكبر، وازداد عدد المتذوقين له، وهذا الأمر شجعني كثيرا. ثم لاحقا بدأ الناس يسألونني، لماذا لا أقدم في حفلاتي مقطوعات موسيقية شرقية أو أغنيات مثلا لعبدالحليم حافظ وأم كلثوم، فبدأت بخوض التجربة، وبدأ الجمهور يتجاوب أكثر مع الحفلات.
وكنت في حالات كثيرة، أبرمج الحفل على أن أضع في نصفه الأول مقطوعات كلاسيكية، وأختم نهايته بمقطوعات لموسيقى شرقية، بحيث أجبر الجمهور على الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، وفي النصف الثاني أقدم له الموسيقى التي يحبها والتي أتى على وجه الخصوص لسماعها في الحفل، وهذا في حدّ ذاته جعل الجمهور متقبلا ومتذوقا للموسيقى الكلاسيكية، إلى درجة بات يطلب مني معزوفات بعينها سبق وأن قدّمتها وسمعها وكانت جميلة وجذّابة بالنسبة إليه.
في النهاية ثقافة المجتمع هي التي دفعتني إلى التغيير في طبيعة الموسيقى التي تربيت عليها ودرستها، وأيضا حبي للموسيقى الشرقية التي تعتبر جزءا من ثقافتي الشخصية ومن ثقافة المجتمع ككل، وأنا متأثرة بها وقد نشأت وتربيت عليها.
وأرى في هذا المزج شيئا إيجابيا، خاصة أنه علينا دور مجتمعي في تعريف الجمهور بالفن الراقي والهادف، وتعريفهم على آلة موسيقية لم تكن لديهم معرفة مسبقة بها.
النقد والفن
العرب: لديك تنوّع أكاديمي كبير، فأنت خريجة كلية الحقوق، وخريجة الكونسرفاتوار، ومع ذلك تحصلت على شهادة في الدكتوراه من قسم فلسفة الفن بمعهد النقد الفني، لماذا كل هذا التنوع، ألم تكن دراستك الموسيقية كافية وذات تقدير اجتماعي؟
رانيا يحيى: فكرة دراستي للحقوق، ليس لها علاقة بتقديري لشهادة الكونسرفاتوار التي أعتز بها، بل كانت بسبب قربي الشديد من والدي رحمة الله عليه، الذي كان حينها ضابطا مجتهد جدا، وكان ينجز دراساته العليا في الماجستير والدكتوراه، وبحكم قربي منه وجلوسي برفقته لوقت طويل، ومتابعته عن قرب وهو يدرس ويحضّر رسائله، كانت كتب القانون تستهويني، كما أنه كان يلفت نظري إلى بعض الأمور القانونية، وكنت أشعر أن المواد التي تتضمنها كلية الحقوق جميلة ومهمة بالنسبة إلينا، على اعتبارها توضح حقوقنا وواجباتنا.
طبيعة الجمهور الشرقي ليست قريبة من الموسيقى الكلاسيكية، فهو لا يتذوقها كثيرا، أو ربما لا يفهمها جيّدا
ومباشرة عندما أنهيت مرحلة الثانوية العامة، وكنت سأتجه بطبيعة الحال لإتمام دراستي في الكونسرفاتوار بسبب تفوقي السابق خلال سنوات دراستي فيه، كانت لدي الرغبة أيضا لدراسة الحقوق، لأطّلع على تفاصيل أكثر وأعمق تتعلق بالحقوق والواجبات، وحين اخترتها في مكتب التنسيق كرغبة أولى، حصلت عليها مباشرة لأن مجموعي في الثانوية العامة كان عاليا فدرست الحقوق وعشقتها، ولو كنت متفرغة للحقوق ولم أكن أذهب إلى الكونسرفاتوار، لكنت تفوقت فيها كثيرا، لأن دراستها شيقة وجميلة وممتعة جدا.
لكن الكونسرفاتوار بقي بالنسبة إليّ المكان الذي أحقق فيه ذاتي وأعبر وأبحث فيه عنها، فالموسيقى أصبحت بالنسبة إليّ جزءا من تكويني وكياني على مدار سنين طويلة، إلى درجة أنه لا يمكنني أن أتخيل نفسي بعيدة عن الحفلات الموسيقية، وحاليا في فترة انتشار الكوفيد – 19 وابتعادنا القسري عن الحفلات، كنت أشعر بنقص كبير في حياتي يؤلمني ويزعجني بسبب عدم وقوفي على المسرح رغم رهبته واحتياجاته ومتطلباته الكبيرة، لكنه يبقى، حالة نفسية غاية في المتعة بالنسبة إلى أي فنان اعتاد عليه.
في النهاية شهادة الكونسرفاتوار بالنسبة إليّ هي شهادة راقية جدا، وسبق أن حصلت على البكالوريوس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وكنت الأولى على دفعتي، وحبي للموسيقى، له كل التقدير من أهلي وعائلتي وأصدقائي ومن كل المحيطين بي.
أما بالنسبة إلى اتجاهي للنقد الفني، فبعد أن عينت معيدة في الكونسرفاتوار وحصلت على الماجستير في العام 2006، قررت أن أتقدم لنيل درجة الدكتوراه، فقمت بنقل درجتي الوظيفية من مدرس مساعد في الكونسرفاتوار إلى المعهد الفني للنقد، والسبب في ذلك يعود إلى محبتي للكتابة والنقد، فلدي رؤية نقدية للأعمال التي أتابعها، وبعد أن كنت قد وصلت إلى أعلى شهادة وحصلت على كل شيء من الكونسرفاتوار واكتفيت دراسيا وتعلمت منه بشكل جيد وعلى أيدي أساتذة مهمين ومميزين، شعرت بأن دراسة فلسفة النقد الفني ستزيد من شخصيتي وستعلمني أمورا جديدة في مجال جديد، وأنا بطبيعتي أبحث باستمرار عن التطور وتحقيق الذات.
فكانت رسالتي في الدكتوراه حول فلسفة الفنون، وقد ارتقيت بعدها إلى رتبة أستاذ مساعد ومن ثم أصبحت رئيسة لقسم فلسفة الفن في أكاديمية الفنون، وهذه الخطوة كانت أشبه بعملية تكاملية، فالفنون كلها تكمل بعضها البعض، والنظرة النقدية أفادتني كثيرا حتى في تقييمي لحفلاتي واختياري لبرامجي، وتعاملي مع الجمهور المتلقي لهذا الفن الذي أقدمه.
وفكرة النقد الفني كانت إضافة كبيرة لي ولحياتي وفني وشخصيتي وأعتبرها نقطة هامة، سعيدة بها ولا تتعارض مع كوني عازفة، والدليل على ذلك استمرار حفلاتي سواء المنفردة منها أو التي تكون مع فرقة أوركسترا القاهرة.
العرب: وماذا عن تجربة عملك مؤخرا مع المجلس القومي للمرأة والورشات التي تشاركين فيها.
رانيا يحيى: بالنسبة إلى عملي في مجال حقوق المرأة وتعييني في المجلس القومي للمرأة والذي أتى بقرار من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فأعتبره تتويجا لمراحل سابقة من التعب والمجهود والمشقة، واهتمامي بمجال المرأة لم يأت وليد اللحظة، ولكن نتيجة متابعتي لأنشطة المجلس القومي للمرأة، وللكتابات النقدية والفكرية حول المرأة وعن احتياجاتها ومتطلباتها، وإلقائي الضوء على المرأة، النموذج القدوة والنموذج الناجح.