العائد إلى الطبيعة ثائر هلال يرسم العالم متخيلا من أجل الوصف

يواصل الفنان السوري ثائر هلال تجريبه المكثفة لأساليب وتقنيات متنوعة، ترمي به هذه المرة بين أحضان تجارب فناني المدرسة التجريدية، حيث يعتمد منهجهم في إعادة تصوير الطبيعة. وهو كما يعبر عنه اسمه فنان دائم الثورة على النمطية في التعبير عن نفسه والتعبير بالتالي عن أشياء محدّدة تمسّ الوجدان والعقل.
ما الذي كان الرسام السوري ثائر هلال يفكر فيه وهو يضع اللاشيء جزءا من عنوان معرضه الشخصي الذي أقامه في قاعة “أيام” بدبي؟
“إبحار عبر لا شيء” يقع على سطح الطبيعة ولا يخترقها كما يفعل مع الزمن. لذة الرسم لا تعادلها سوى متعة التأمل. وهلال يتأمل الطبيعة لكن بعد أن يُخليها من حمولتها الوصفية. إنه يرتد بها إلى عناصرها الأولية. هناك لن تكون ذلك الركام من الصور التي تتحكم في انفعالاتنا وطريقة تفاعلنا معها وتصيبنا بجمالها كما نراه لا كما هو في حقيقته.
◙ الرسام يفترض أن خيال الطبيعة لا يكمن في الأشكال بل في ما تسببه من مسرات بصرية
يفترض الرسام الذي يعيش ويعمل في الشارقة منذ سنوات طويلة أن خيال الطبيعة لا يكمن في الأشكال التي تتجلى من خلالها بل في ما تسببه من مسرات بصرية هي أشبه بالأسرار التي يغذي فيها الرسام خياله.
عُرف ثائر هلال في معارضه السابقة بلوحاته كبيرة الحجم التي غالبا ما كان خيال اليد يمتزج فيها بصخب المواد المختلفة التي كانت هي أساس السطح التجريدي الذي لا يفارق عزلته ولا يمتد خارج نطاقها.
كان الرسام تجريديا بالمعنى الذي يتم من خلاله الانفتاح بعناصر الرسم ومواده على عالم يقف إلى جوار العالم المرئي. ذلك هو عالم الرسم المكتفي بخلاصاته فنا مستقلا.
أما اليوم في معرضه الحالي فإنه يعود من خلال أعمال صغيرة الحجم إلى أصول واحدة من أقدم المحاولات التجريدية التي تجاوزت حدود الوصف الخارجي للطبيعة عبر التسلل إلى جوهرها، وأقصد هنا بالتحديد تجربتي البريطاني وليام تورنر (1775 – 1851) والفرنسي كلود مونيه (1840 – 1926).
الطبيعة لذاتها والرسم لذاته
لا تقوم العلاقة بين تجربة ثائر هلال وتجربتي تورنر ومونيه إلا على مستوى الموقف التلذذي مما ينطوي عليه تأمل الطبيعة من مفاجآت بصرية لا تُرى بشكل مباشر، بل يقوم الرسام باستخراجها على سطوح لوحاته كما لو أنه يخترعها. تلك مقاربة تاريخية فيها الكثير من التأويل النقدي الذي جاء متأخرا. أما المعالجات التقنية فإن ثائر هلال يستمدها من تجاربه الشخصية عبر أكثر من ثلاثين سنة من المغامرة التجريدية.
ومَن أتيحت له فرصة متابعة الرسام في كل مراحله الأسلوبية لا بد أن يستبعد إمكانية تأثره بتجربة الألماني انسلم كيفر في رسم المشاهد الطبيعية. فهلال يتعمد الإبقاء على الطابع الشعري الغامض للمشهد دون اللجوء إلى استعماله خلفية لما يقع فيه أو يتخلله من حكايات. وما بين الطبيعة لذاتها والرسم لذاته تقع مفاجآت جمالية لا يمكن التأكد من مصدرها، هل هو الرسم الذي يعيد تأثيث هويته الانطباعية بالكثير من صدمات التجريد المثيرة أم هي الطبيعة التي تعتصر إلهامها في لحظة تتجاوز زمانها لتخلق فضاءها التعبيري الخاص؟
من المؤكد أن ثائر هلال لا يسبق فعل الرسم بالتخطيط له؛ بمعنى أنه لا يعرف ما الذي سينتهي إليه حين يبدأ الرسم. المزاج الجمالي هو ما يحتاجه. لن ينقطع ذلك عن خبرته. ولكن الخبرة وحدها لا تكفي. أحيانا يشعر الرسام وهو يواجه سطح القماشة البيضاء كما لو أنه لم يرسم من قبل. ذلك نوع من الخبرة المضافة التي لا يعرف أحد قيمتها سوى الرسام.
اللاشيء دائما في انتظاره
يخلص ثائر هلال إلى المقولة التي تلخص عمل الرسام بإظهار ما لا نراه. في الوقت نفسه يعيش حياته المثالية وهو يبحر في ذاكرته التي اكتشف بعد طول معاناة أنها قد لا تهبه شيئا بعينه. يمكنه الآن أن يقول بثقة بعد أن أنجز رسومه الصغيرة إن اللاشيء كان وسيكون في انتظاره. ألم يحلم غوستاف فلوبير مؤلف رواية “مدام بوفاري” بتأليف كتاب عن اللاشيء؟ رسوم ثائر هي مزيج من خيال اليد التي تعيش لحظة الرسم وخيال الذاكرة التي تحررت من إرثها الثقيل الذي هو عبارة عن مجموعة من الحكايات التي فُرغت من محتوياتها التي تستدعي الانفعال.
رسوم ثائر هي مزيج من خيال اليد التي تعيش لحظة الرسم وخيال الذاكرة التي تحررت من إرثها الثقيل الذي هو عبارة عن مجموعة من الحكايات
ولكن ما أنا على يقين منه هو أن الرسام قد فك ارتباطه بذاكرته منذ زمن طويل. تلك فرصته لكي يتحقق من أن كل شيء سيرسمه سيكون جديدا عليه. ذلك واحد من أهم شروط الرسام الطليعي؛ أن يفاجئ نفسه بما يفعل. أعتقد أن ثائر هلال يشعر بقدر لا يتوقعه من الإثارة وهو يرسم. كل لحظة رسم هي بالنسبة إليه اكتشاف. يبحر في ذاته من خلال الرسم وفي المقابل يكتشف ما يخبئه له الرسم من مفاجآت سارة. لقد فوجئت بالحجم الصغير للوحاته هذه المرة فيما كان هلال لا يخفي دهشته أمام مصغراته التي صارت تمثل عالمه الذي هو مصدر سعادته. سيكون ذلك عالمنا المستمد من بحر تورنر وزهور مونيه المائية بالرغم من أن ذلك حدث من غير قصد.
ثائر هلال سيرة فنية
ولد ثائر هلال عام 1967 في ريف دمشق. عام 1991 تخرج في قسم الفنون البصرية في كلية الفنون الجميلة بدمشق، بعد ذلك انتقل إلى الشارقة ليعمل في الصحافة مصمما ومن ثم انتقل إلى التدريس في جامعة الشارقة، كلية الفنون الجميلة. نال جائزة بينالي الشارقة لعام 1997، كما حصل على الجائزة الذهبية لبينالي الرسم المعاصر في طهران عام 2005.
عام 2000 أقام معرضه الشخصي الأول في متحف الشارقة للفنون. ومن يومها وهو يحرص على إقامة معرض سنوي لأعماله، وبالأخص حين أصبح بعد عام 2010 رساما معتمدا من قبل قاعة أيام السورية التي أقامت له معارض في دمشق وبيروت ولندن والقاهرة. وقبل ذلك كان الفنان قد عرض أعماله في غرين آرت بدبي (2003 – 2006) وفي المركز الثقافي بأبوظبي (2002). شارك هلال في معارض ولقاءات دولية جماعية في كوريا الجنوبية وأبوظبي ودبي والإسكندرية وطهران وبنغلاديش.