الطريق إلى البحر

الأحد 2015/06/28

متى تأتيه الكتابة بأبهى حللها؟ أفي حضرة البحر؟

متى تنقطع دون سابق إنذار؟ أفي حضرة البحر أيضا؟

من أين يبدأ كي يصل؟

***

كل يوم، كان على روحه أن تستقي من ينبوع الأعالي. بئرٌ يفيض الماء من جانبيه. يفيض ولا يتوقف. وبين مكانه هنا ومكانه هناك تلَّة عليه أن يتسلقها كل يوم. وفي الطريق كان يمضي وحيدا. طريقه لا يحتاجُ رِفقة، يحتاجُ رغبة، ومِنْ تلك الرغبة لَدَيه ما ليس لدى سواه.

وكان يرى الكتابة فوهة بئر، يسيلُ من جوانبها شخصٌ يشبهه. وكما الجميع، يلتقطُ دوما ما يقدّم نفسه بنفسه. يعطيه الفرصة. أن تثمر أو لا، فذاك يأتي لاحقا. كان يرى، ويصغي، ويختزن. طاولة الكتابة برجُه العاجي. هناك، يصنع نفسه، يميّزها عن الآخرين. مِنْ دونه. مِنْ دون ذلك الابتعاد سيكون واحدا من آحاد.

ومنذ فترة وهو يجرِّبُ فتتكرر الأفكار. إن بعثرها من جديد أتُريه استعداداته الداخلية واضحة كعين الشمس؟ لعبةٌ مشتركة بين الجبين والعينين. حركةٌ ينظّفُ بها صفحة أفكاره. يمحو الماضي ليبدأ الحاضر. وما من نسيجٍ مسبقٍ. الحالةُ وما تمنحُ. الكلمة جنب أختها. خيطٌ عكس خيط. السدى واللحمة. لوحته، روحه التي أرادها حيّة دوما. وسيمهلُها. فلتأخذ ما تشاء من الوقت. وبعدها إلى كلماتٍ جديدة. الكلماتُ إياها. لن يتخلّى عنها تحت أيّ تهديد أو كسل.

والبدايةُ متلعثمةٌ. البداياتُ كسيحةٌ دوما. عَليه أن يأخذ بيدها لتحبو ويشتدَّ عودُها. وكان عَليه والحالةُ هذه أن يبقي رأسي متقدا. الفرن والرغيف. هكذا تخَيَّلَ الأشياء في نُضْجِها. هكذا رآها دوما. فهل نسي شيئا منذ أن استفاق؟

وينظرُ إلى صَيْدِه، إلى تعبٍ لا طائل منه. مَنْ يملك الكلمة الفصل؟ ينظرُ فلا يخطرُ بباله من جديد غيرَ الكلمات. بها سيهزم حياته المضجرة. سيهزمها ولو لساعات. يعيدُها إلى الثقب الأسود الذي أتت منه. والآن فالعجلة لا تفيد، وهو لم يكن في عجلةٍ من أمره. كل تأخيرٍ كان بالنسبة إليه حفرا في المعنى. وكان المعنى تمثالا، والكلمات إزميل، وهو النحّات!

تخطيط: ساي سرحان

والآن، وفي مثل حالته، أراد تكرار الماضي. لقد حاول مرارا. وسيحاول مِنْ جديد. مَنْ يدري؟ ربما يكون النجاحُ حليفه. وكما في الماضي فسيترك ما يريد قوله ينساب على الورق. وبعدها تأتي المهمة الأصعب. أن يكتبه بعد أن عرفه، وعرف ما يريده منه.

وهكذا هي دوما. فإلى أين؟ يمينا، شمالا، وراءَ، أمام، كلها اتجاهات. وكلها أمكنة. وذلك الرأس الذي يطلّ من فوق الرؤوس، يؤشر إلى الطريق، أهو له؟ أهو رأسه؟ فقد بات بحاجةٍ إلى إنجازٍ جديد.

جَرّب كُلَّ الحالات. وما يريده صعبٌ. أصعبُ من أن يوصل إليه!

وها هو ذا يصل إلى المنطقة الآمنة، وحده يعرفُ أين تقع.

وسيتشمّم صيده الثمين. أنفُه ومنقاره ومخالبه ينبشون باطن الصيد. ولن يقبله دون رائحة أو طعم. ويعرف متى تكون لصيده رائحةٌ وطعم. فهو الحارس الأمين لحدود ما يملك، حتى وإن بدا ما يملكُهُ سرابا لا غير.

***

ويذهبُ إلى البحر كمن لم يذهب. ويعود كمن لم يعد.

فماذا حدث؟ لم يبتعد كثيرا. لقد خاف. وهنا كان سقوطه.

كان ينبغي أن يصل إلى آخر نقطة. مثل متعبدٍ هبطَ مِنْ أزمنةٍ سحيقة. يقف أمام ثعبان يزنر قارات العالم. وكان قد فعل ذلك مرارا، فهل ازدادت معرفته؟ أما كان من الأسلم لروحه لو ظلت كغيرها؟

كلّ إجابة بمثابة تعقيد جديد.

كلّ إجابة درب آخر إلى المتاهة.

وبحره كان المتاهة.

البحر متاهة فأين هو من البحر؟ وأين البحر منه؟

كاتب من فلسطين مقيم في دبي بالإمارات

11