الطبوبي يحذر من سلوك ويأتي بمثله

يبدو أن شعار “إعلاء الصوت” الذي ما انفك يردده قادة الاتحاد العام التونسي للشغل، يعني رفع حجم الهتاف والصراخ، لا أكثر ولا أقل، أي أنهم لا يقصدون من خلاله تلك العبارة الدالة على الدفاع عن جملة مطالب وأولويات كما هو سائد في القاموس الاصطلاحي، بل الزيادة في “الفوليوم” بالمفهوم الصوتي المحض.
وكأفضل دليل على صواب هذا الاستنتاج، أنه وفي ختام كلمة الأمين العام نورالدين الطبوبي، على هامش افتتاحه للمؤتمر العادي للجامعة العامة لتكنولوجيا المعلومات والخدمات، قال الأمين العام المساعد سامي الطاهري الذي يرأس المؤتمر “صوتنا عال كي لا يقال لقد صمت الاتحاد أو خاف من ملفات قضائية تلاحقه.. هذا القول باش ما يقولوش شبيهم سكتوا”.
غريب هذا التعقيب الذي لا تنطبق عليه سوى عبارة “كاد المريب..”، أما الأغرب منه فهو كلمة الطبوبي، التي جاءت وكأنها تكرر وتؤكد جملة قناعات وتصريحات الرئيس قيس سعيد، ولكن بنفس متشنج وموجه ضد حكومة قيس سعيد نفسه.
◙ كيف السبيل لإصلاح المؤسسات العمومية والتحكم في كتلة الأجور، والخفض التدريجي لنظام الدعم الذي اكتفت المنظمة النقابية بأن تفسر به نقص بعض المواد الغذائية من الأسواق المحلية
ومن جملة ما قاله الأمين العام للمنظمة الشغيلة في ما يخص التفاوض مع صندوق النقد الدولي “إذا أردنا أن نفاوض بكل ندية فيجب أن نكون متضامنين وقادرين على خلق الثروة، لا أن نفاوض ونحن متفرقون ونعيش حالة حقد وكراهية”.
هل قال الرئيس التونسي يوما، عكس هذا.. لا بل إن العبارات تكاد تكون منسوخة عن تصريحات قيس سعيد في مناسبات سابقة؟
ولولا انتقادات الطبوبي للحكومة على ما وصفه بغياب الشفافية في موضوعي الهجرة واختفاء بعض المواد الأساسية من الأسواق، لظن مراقبون أنه خطاب تودد وخطوة نحو التهدئة وإذابة أسوار الجليد بينه وبين رئيس الدولة، ولكن بإخراج مطلبي متشنج وفق التقاليد التي دأبت عليها هذه المنظمة النقابية العريقة، والتي بدأ حتى المنتسبون إليها يضيقون ذرعا بقيادييها بسبب دورهم التعطيلي الواضح.
هذه الممارسات التعطيلية أشار الرئيس التونسي بصريح العبارة إلى أصحابها في أحد خطاباته بقوله دون مواربة “إنّ من يقومون بقطع الطرق وسكك الحديد أو التهديد بذلك بعلل واهية، لا يمكن أن يبقوا خارج دائرة المساءلة”، مضيفا أنّ “الحق النقابي مضمون بالدستور، لكنّه لا يمكن أن يتحول إلى غطاء لمآرب سياسية لم تعد تخفى على أحد”.
و”استحالة البقاء خارج دائرة المساءلة” هي الشبح الذي بات يخيف الجميع، شبح يظهر في كل مرة على حين غرة، يرصد ويتوعد كل من تحوم حولهم الشبهات كما هو الشأن بالنسبة إلى شبح مسرحية “هاملت” الذي اقترن بعبارة “أشتم رائحة ما في مملكة الدنمارك”.
لا شك أن الملفات القضائية هي السلاح الأقوى في يد الدولة التونسية، والذي يطال الفاسدين والمخربين دون استثناء، لذلك يعمد بعضهم إلى المهادنة وخفض الصوت، بالقدر الذي يعلي فيه آخرون من صراخهم.. و”من كانت لديه شوكة ستنخزه يوما” كما يقول المثل العامي.
أما في ما يخص الأزمات المالية والاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد، فالكل يعلم أنها ليست جديدة، ليست من صنع قيس سعيد، وليست مجابهتها من مهماته هو وحده كي تكتفي القوى السياسية والنقابية المعارضة بالتذكير بها والتباكي عليها دون أي مبادرة.
◙ الرئيس التونسي أشار بصريح العبارة إلى أصحابها في أحد خطاباته بقوله دون مواربة "إنّ من يقومون بقطع الطرق وسكك الحديد أو التهديد بذلك بعلل واهية، لا يمكن أن يبقوا خارج دائرة المساءلة"
ليس أسهل من إلقاء جميع المسؤوليات وانتظار جميع الحلول من الحكومة وحدها، وقد كبلها قادة اتحاد الشغل بشتى أنواع الشروط وهم في مكاتبهم لا يفعلون شيئا غير الدعوة إلى الإضرابات حرصا على “الثروة الوطنية” التي لا يصنعها ـ بالتأكيد ـ الكساد والبطالة والتحريض على التخريب.
ربما غاب عن أذهان قادة الاتحاد أن “فن الممكن” لا يتعلق بالعمل السياسي وحده، وإنما بالعمل المطلبي كذلك، لكنهم ذهبوا أبعد من ذلك نحو “ما يجب أن يكون”، وبشروط مجحفة ودون أي مبادرة، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر.
أما عن الهجرة وتبعاتها وما تستدعيه من حلول جذرية، فلماذا المزايدة على ما سبق أن قاله قيس سعيد وانتقد بسببه من طرف جهات تتشدق بالحقوقيات؟
هل بإعلاء الصوت النقابي ستواجه تونس اليوم مطالب صندوق النقد بضمانات حقيقية لتطبيق حزمة إصلاحات قبل البدء بصرف الشريحة الأولى من اتفاق قرض بقيمة 1.9 مليار دولار أميركي.
وكيف السبيل لإصلاح المؤسسات العمومية والتحكم في كتلة الأجور، والخفض التدريجي لنظام الدعم الذي اكتفت المنظمة النقابية بأن تفسر به نقص بعض المواد الغذائية من الأسواق المحلية، فزادت من بث القلاقل التي من شأنها أن تمس بالسلم الأهلي في ظرف شديد الهشاشة والحساسية.
أما كان الأجدر بالطبوبي أن يوجه النصيحة لنفسه بدل بيع الماء في حارة السقائين، ويتوقف هو وزملاؤه عن “إعلاء الصوت” في تكرار ما يعرفه الجميع.. ربما لأن جموع العمال لم تعد تستمع إليهم.