الطبوبي والحكومة التونسية: الخطة في غياب الخطط

التونسيون يتفقون على أن بلادهم تعاني أزمة اقتصادية تزداد حدتها يوما بعد يوم كما أنهم يشخصون الأزمة جيدا ولا يفتقرون إلى الخبرات الاقتصادية لكن “الأزمة” الحقيقية تكمن في وصفة العلاج.
الخميس 2022/12/29
شعارات في ظل غياب الخطة

تهديدات الاتحاد العام التونسي للشغل باحتلال الشوارع وشل حركة البلاد كأقصى حالات الاحتجاج ليست صعبة التنفيذ، ولا غريبة على المنظمة النقابية العريقة التي تضم أكثر من مليون منتسب في بلاد يبدو فيها كل شيء هشّا وقابلا للاحتراق.

الأمين العام للاتحاد نورالدين الطبوبي، يمتلك أسباب إقناع الشارع ـ ودون بذل أي جهد إضافي ـ بأن “الوضع لا يُطاق”، ولكن أين البديل؟

جميع التونسيين يتفقون على أن بلادهم تعاني أزمة اقتصادية فائقة الصعوبة، وتزداد حدتها يوما بعد يوم، كما أنهم يشخصون الأزمة جيدا ولا يفتقرون إلى الخبرات والكفاءات الاقتصادية المحنكة، لكن “الأزمة” الحقيقية تكمن في الوصفة العلاجية.

ترى الحكومة أن الحل الأنجع يكمن في ميزانية تقشف للعام المقبل من شأنها أن تخفض العجز المالي عبر دفعة من إصلاحات لا تحظى بشعبية لكنها يمكن أن تمهد الطريق للتوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ مالي.

ويرد الاتحاد بأن هذه ليست سوى حكومة ضرائب “تتحايل على شعبها” كما ورد على لسان أمينه العام، مضيفا بأن قانون المالية يزيد من معاناة التونسيين.

◙ الوعي النقابي لدى التونسيين رافقه وعي سياسي وحقوقي جعل الناس لا تصدق بسهولة جميع الشعارات المرفوعة كما أن خلافات عميقة بدأت تظهر في الجسم النقابي

وبالفعل، بدأت الحكومة بخفض الإنفاق على الدعم الذي سيصل نسبة كبيرة وغير متوقعة في مجالي الطاقة والغذاء، كما ستُرفع الضرائب على شاغلي عدد من الوظائف مثل المحامين والمهندسين والمحاسبين، الأمر الذي سيؤدي إلى المزيد من الغضب والاحتقان الشعبي.

تقر الحكومة بأنها  ستكون “سنة صعبة” كما ورد على لسان وزير الاقتصاد التونسي، وذلك في إشارة إلى أن طعم الدواء لن يكون حلو المذاق، لكن تونس ستمضي للتعافي إن التزمت بهذه الوصفة العلاجية.

الطرف النقابي من جهته، وبكل ما يمثله من ثقل اجتماعي، يرى أن هذه البروتوكول العلاجي مغلوط من أساسه، ولن يؤدي إلا إلى المزيد من المعاناة، لكنه لا يقدم أي بديل.

يكثر الطبوبي من الحديث عن التشاور مع أطراف شريكة وفاعلة كنقابة المحامين وهيئة حقوق الإنسان ثم يعود ويطلق تهديداته دون أن يكشف عن أيّ خطة للإصلاح كما كان يلمّح.

ويمضي الرجل في تصريحات وكأنها أعدت للاستهلاك الإعلامي وتصوّب الكرات بصفة عشوائية نحو مرمى الرئيس قيس سعيد، وحكومة نجلاء بودن، من قبيل أن سعيد “لم يستمع إلا لصوته ويرفض أيّ رؤى تشاركية للإصلاح”، ويصر على “المُضي منفردا في إدارته البلاد”.

ويمضي الطبوبي في اتهام سعيد بالتضليل، وبصفة مبطنة، وذلك من خلال قوله “الرئيس وحكومته في طريقين مختلفين، فهو يتحدث ويعد بإصلاحات، وحكومته تقر إجراءات تزيد في معاناة التونسيات والتونسيين، وهذا لن يزيد الوضع إلا تأزما”.

صحيح أن الحكومة التونسية قد لجأت إلى حلول ترقيعية على رأسها الاعتماد على العائدات الضريبية لمواجهة عجزها المالي، مما يثقل كاهل المواطن المنهك أصلا، لكن ما من حل غير ذلك أمام تزايد ضغوط الجهات المانحة وشروطها.

الاتحاد العام التونسي للشغل، من جهته، يلتزم بدوره التاريخي إزاء القضية الاجتماعية.. وهذا ما لا ينكره أحد، لكنه بدا ينحرف نحو أسلوب تصفه جهات مراقبة بـ”الابتزاز”، ذلك أنه يوظف الأزمة للظهور بمظهر البطل دون أن يكون “مخلّصا”.

يشهر الطبوبي سلاح النزول إلى الشارع وتجييش اليد العاملة ضد الحكومة، دون أن يقدم أيّ حلول مقترحة أو خطط بديلة من شأنها أن تعبّر عن مصداقيته.

◙ الحكومة تقر بأنها  ستكون "سنة صعبة" كما ورد على لسان وزير الاقتصاد التونسي، وذلك في إشارة إلى أن طعم الدواء لن يكون حلو المذاق

المواطن من ناحيته، بدا في أكثر من مناسبة، يتململ من استعراضات القوة التي تصدر من الاتحاد، خصوصا في الإضرابات المتتالية التي تشل البلاد وتؤثر على قطاعات مختلفة.

الوعي النقابي لدى التونسيين رافقه وعي سياسي وحقوقي جعل الناس لا تصدق بسهولة جميع الشعارات المرفوعة كما أن خلافات عميقة بدأت تظهر في الجسم النقابي وتتعلق بتبادل اتهامات بين قيادات، وتخص ولاءات حزبية وغيرها.

وهكذا تمضي القيادة الحالية للاتحاد بكيل الاتهامات للرئيس والحكومة كيفما اتفق، فتخلط النشاط المطلبي بالسياسي حينا، وتعرّج على قضايا دستورية أحيانا أخرى، على شاكلة الإحجام عن الانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي قال فيها الطبوبي منتقدا الرئيس التونسي “لو قام بخطوة إلى الوراء من أجل الإصلاح لكبُر في أعين الناس، لكنه للأسف يهرول إلى الأمام ويرى نفسه المهدي المنتظر والوصي على الشعب التونسي”.

كل هذا من شأنه أن يشتت الأذهان، ويلهي عن التفكير في البحث عن مخارج نجاة.

أما كان الأولى بالطبوبي أن يقدم خطته المزعومة في الإصلاح بدل التهديدات والاتهامات ومحاولة تطويق نفسه بخاصرة حزبية وحقوقية أم أن “خطته” تتمثل في غياب الخطة.

الغريب أن الطبوبي قال جملة أثارت سخرية الكثيرين واعتبروها ضد نفسه “كافة عناصر النجاح موجودة في بلادنا لكن نحن أعداء أنفسنا”.

9