الطاقة النووية في مفترق تحديات دعم الاقتصاد الأخضر

تحولت أنظار الخبراء إلى المناقشات التي برزت مؤخرا بشأن دور صناعة الطاقة النووية في تحقيق هدف الحياد الكربوني في خضم مساعي حكومات العالم لتنفيذ برامجها لحماية المناخ، خاصة وأن الاستثمار في هذا المجال لا يزال يحمل في طياته المخاطر مع أنها تبدو أقل قياسا بالفحم والوقود الأحفوري.
غلاسكو (اسكتلندا) – تشكل الطاقة النووية نقطة شائكة مركزية بينما يخطط المفاوضون في محادثات المناخ في اسكتلندا لكيفية تزويد العالم بالوقود مع تقليل انبعاثات الكربون.
وبينما يشجب النقاد ثمنها الهائل والأضرار غير المتناسبة التي تسببها الحوادث النووية وبقايا المواد المشعة التي تظل قاتلة لعقود، يرى مؤيدو هذه الصناعة من بينهم بعض علماء المناخ وخبراء البيئة أن الطاقة النووية هي أفضل أمل في العالم لإبقاء تغير المناخ تحت السيطرة.
ويشير هذا الشق من المتفائلين إلى أن الطاقة النووية تصدر القليل جدا من الانبعاثات الضارة بالكوكب، وهي أكثر أمانا في المتوسط من أي شيء تقريبا، كما أنها تسهم في تنويع مزيج الطاقة الكهربائية.
ويقول العلماء والمختصون إن الحوادث النووية رغم أنها مخيفة ولكنها نادرة للغاية بينما يتسبب التلوث الناتج عن الفحم وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى في الوفاة والمرض كل يوم.
ويرى مات بوين من مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا أن “حجم ما تحاول الحضارة البشرية القيام به على مدى الثلاثين عاما القادمة لمكافحة تغير المناخ مذهل”.
ونسبت وكالة أسوشيتد برس إلى بوين قوله “سيكون الأمر أكثر صعوبة إذا استبعدنا المحطات النووية الجديدة أو سيكون الأمر أكثر صعوبة إذا قررنا إغلاق المحطات النووية كلها معا”.
وتظهر الإحصائيات الدولية أن ثلاثين بلدا تنتج قرابة 11 في المئة من الكهرباء عالميا من مصادر الطاقة الذرية عبر تشغيل 44 مفاعلا نوويا وبقدرات تصل إلى حوالي 400 ألف ميغاواط، فضلا عن وجود 54 مفاعلا آخر قيد الإنشاء.
وتستهدف الخطط الراهنة للدول التي تستخدم الطاقة النووية للأغراض السلمية أن تساهم هذه المحطات في ربع الإنتاج العالمي من الكهرباء بحلول 2050.
وفي حين تضغط العديد من الحكومات لتكريس الطاقة النووية في خطط المناخ التي يتم طرحها في مؤتمر غلاسكو (كوب 26)، يناقش الاتحاد الأوروبي ما إذا كان سيتم تصنيف الطاقة النووية رسميا على أنها “خضراء” وهو قرار سيوجه استثمارات بالمليارات من اليوروهات لسنوات قادمة.
ولهذا آثار في جميع أنحاء العالم، حيث يمكن لسياسة الاتحاد الأوروبي أن تضع معيارا تتبعه الاقتصادات الأخرى. لكن الأمر قد يكون مكلفا إذا ما تم النظر إلى آلاف الأطنان من المخلفات عالية النشاط الإشعاعي سنويا، بالإضافة إلى ما خلفته عقود من تسخير الذرة لكهربة المنازل والمصانع في جميع أنحاء العالم.
وتقود ألمانيا مجموعة البلدان، لاسيما داخل الاتحاد الأوروبي، التي تقف بحزم ضد تصنيف الطاقة النووية على أنها “خضراء”. وفي الوقت نفسه، تدعم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الطاقة النووية.
كما أن الصين لديها العشرات من المفاعلات قيد الإنشاء، وحتى اليابان تروج للطاقة النووية مرة أخرى، بعد 10 سنوات من كارثة محطة فوكوشيما للطاقة، وها هي الإمارات تلتحق بالركب، وتتبعها كل من مصر والسعودية.
25 في المئة نسبة إنتاج الكهرباء المستهدفة بحلول 2050 من خلال 100 مفاعل نووي
لكن لا يوجد مكان في العالم يعتمد على المفاعلات النووية مثل فرنسا، التي تحتل موقع الصدارة في الدفع المؤيد للطاقة النووية على المستويين الأوروبي والعالمي. وهي من بين اللاعبين الرئيسيين في صناعة النفايات النووية أو إعادة تدوير أو إعادة معالجة المواد.
ويقول تييري بوشوت المتحدث باسم وكالة أندرا التي تدير النفايات في فرنسا “لا يمكنني محاربة مخاوف الناس لكن دورنا هو ضمان سلامة الناس والبيئة والعاملين في الموقع”.
وتحتوي وحدات التخزين التابعة للوكالة على 90 في المئة من النفايات المشعة منخفضة إلى متوسطة النشاط، بما في ذلك الأدوات والملابس والمواد الأخرى المرتبطة بتشغيل المفاعل وصيانته.
وتم تصميم الموقع ليدوم 300 عام على الأقل بعد وصول آخر شحنة، عندما يُتوقع ألا يزيد النشاط الإشعاعي لمحتوياته عن المستويات الموجودة في الطبيعة.
وبالنسبة إلى النفايات الأطول عمرا، الوقود النووي المستخدم بشكل أساسي، والذي لا يزال مميتا لعشرات الآلاف من السنين، تضع فرنسا الأساس لمستودع دائم للأرض العميقة أسفل حقول الذرة والقمح خارج قرية بوري الحجرية القريبة.
وعلى بعد 500 متر تحت السطح، يجري العمال اختبارات على الطين والغرانيت ويحفرون الأنفاق ويسعون لإثبات أن خطة التخزين طويلة الأجل هي الحل الأكثر أمانا للأجيال القادمة. وثمة مواقع مماثلة قيد التطوير أو الدراسة في بلدان أخرى أيضا.
وبحسب أودري جيليمينت الجيولوجية والمتحدثة الرسمية باسم المشروع، فإنه إذا حصل المستودع على الموافقة التنظيمية الفرنسية، فسيحتوي على حوالي 94 ألف طن من النفايات المشعة المنتجة “من بداية العصر النووي حتى نهاية المنشآت النووية الحالية”.
وقالت “لا يمكننا ترك هذه النفايات في مواقع التخزين على السطح، ورغم أن هذا آمن، إلا أنه غير مستدام”.
وتكلفة المستودع المقترح البالغة 25 مليار يورو (29 مليار دولار) مدمجة بالفعل في ميزانية المرافق الفرنسية، ولكن هذا مجرد جزء واحد من التكلفة المذهلة لبناء وتشغيل المحطات النووية، وأحد أسباب كثرة المعارضة.
ويتبنى بعض العلماء البارزين الآن الطاقة النووية، ويستشهدون بإحصائيات تشير إلى أنه على مدى نصف القرن الماضي تجنبت محطات الطاقة النووية انبعاث ما يقدر بنحو 60 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون من خلال توفير الطاقة التي كانت ستأتي من الوقود الأحفوري لولا ذلك.
وقال كيري إيمانويل أستاذ علوم الغلاف الجوي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “بدأ الناس يفهمون عواقب عدم التحول إلى أسلحة نووية”. وأضاف “في ظل الوعي المتزايد بارتفاع مخاطر المناخ في جميع أنحاء العالم، بدأ الناس يقولون هذا مخيف أكثر قليلا من محطات الطاقة النووية”.
ويريد بعض النشطاء إنهاء الطاقة النووية اليوم، ويريد آخرون التخلص منها قريبا، لكن إيمانويل أشار إلى أمثلة من الدول أو الدول التي أغلقت محطاتها النووية قبل أن تصبح مصادر الطاقة المتجددة جاهزة لتحمل الركود، وكان عليها العودة إلى الفحم أو مصادر الطاقة الأخرى التي تخنق الكوكب.
وتعطي أزمة الطاقة الحالية دعاة الطاقة النووية حجة أخرى مع دفع تكاليف النفط والغاز لأزمة أسعار الطاقة في جميع أنحاء أوروبا وخارجها.