الضياء منتصراً على الظلام

الفوتوغرافية ليلى العلوي لا تزال تلتقط صور المغاربة بعد سنتين على مصرعها.
الأحد 2018/12/09
جانب من المعرض: وجوه مضيئة على خلفية سوداء

يستضيف متحف إيف سان لوران في حديقة ماجوريل بمراكش معرضا تكريميا للمصورة الفوتوغرافية ليلى العلوي، التي كانت ضحية الهجوم الإرهابي الذي ضرب فندق “سبلونديد” في العاصمة البوركينابية واغادوغو خلال شهر يناير 2016.

 المعرض الذي يحمل اسم “المغاربة”، والذي يتواصل إلى غاية الخامس من فبراير المقبل، التقطت فيه الراحلة ملامح ووجوه مغاربة من مختلف الجهات والهويات والإثنيات. معرض يعلن أمام مشاهديه أن الصورة إبداع إنساني لا يموت، وإن تعرض صاحبه للقتل، لأن أعماله ستبقى على قيد الحياة، ما دام يلتقط صورا ونظرات مفعمة بالحياة.

افتتح المئات من عشاق الصورة الفوتوغرافية في المغرب معرض “المغاربة” للراحلة ليلى العلوي، في قلب مدينة مراكش. هو واحد من أهم معارض هذه الفنانة المغربية والعالمية، التي عرضت أعمالا أخرى في مختلف قارات العالم، مثل “المرأة المغربية في الواجهة”، ومعرض “عبور” عن المهاجرين القادمين من دول جنوب الصحراء، ومعرض أنت لن تمر” عن اللاجئين السوريين، والذي استضافه، مؤخرا، متحف الفنون الجميلة في مونتريال.

معجم فوتوغرافي

يبدو معرض “المغاربة” مثل معجم فوتوغرافي، وهو يقدم لنا بورتريهات لمغاربة يحملون مختلف السحنات، من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرقه حتى غربه، عبر مختلف الأجيال، وشتى أشكال اللباس التقليدي. معجم بصري يؤالف ما بين الصورة والأسطورة، تلك الثنائية التي اشتغل عليها المفكر الفرنسي رولان بارت في تحليله الرائد والمرجعي لسيميائية الصورة الفوتوغرافية.

كانت ليلى العلوي فوتوغرافية جوالة، تحمل معها ذلك الأستوديو المتنقل حيثما توجهت، لتلتقط الصور التي تسترعي انتباهها.
كانت ليلى العلوي فوتوغرافية جوالة، تحمل معها ذلك الأستوديو المتنقل حيثما توجهت، لتلتقط الصور التي تسترعي انتباهها.

ولئن كانت الفوتوغرافية ليلى العلوي تركز على أزياء وانتماءات المغاربة، وعلى سماتهم وقسماتهم، فإنها تحرص أكثر على التقاط نظراتهم تحديدا. وهذا ما ظلت تؤكد عليه القواعد المتعلقة بفن البورتريه، حيث لا بد من التركيز على النظرة وعلى اتجاه النظرة أيضا. والاتجاه وجهة. وهنا، لا تقدم لنا المصورة الفوتوغرافية وجه الشخص الذي تلتقط صورته، بل تقدم وجهة نظره إلى الحياة، مكثفة في صورة واحدة.

الحديث عن معجم للبلدان مكتوب بلغة فوتوغرافية يقودنا إلى حقل التاريخ. غير أنه تاريخ بصري يجعل من الفوتوغرافي مؤرخا أصيلا، مؤرخا بصريا يشتغل ليحفظ للناس ذاكرتهم وملامحهم المعرضة للاندثار. وفي هذا السياق ينبهنا بيورن دالستروم، مدير متحف إيف سان لوران في حديقة ماجوريل بمراكش، إلى أنه “كان على ليلى العلوي أن تنتج أرشيفا مرئيا للتقاليد المغربية والعوالم الجمالية التي شرعت في الاختفاء تحت تأثير العولمة”.

لعل هذا ما أوحى للعلوي بأن تلتقط صورة لرجل طاعن في السن، يمسك دجاجة ربما كانت قوت يومه، أو ما يبيعه في السوق لتأمين حياة أسرته خلال بضعة أيام. بينما ينتمي الرجل إلى منطقة “ملوسة” في شمال المغرب، على مشارف منطقة القصر الصغير، التي تحولت إلى ميناء طنجة المتوسطي، وهو رمز العولمة الذي يساهم في حركة التجارة العالمية المعاصرة، فوق ضفاف حوض البحر المتوسط.

ولأن معرض العلوي أشبه ما يكون بجولة فوتوغرافية في المغرب، يرى بيرون دالستروم أن الفنانة الراحلة إنما “تركب بصورها خارطة للمغرب، مستخدمة جميع هذه المؤشرات التي يعرضها أفراده بفخر، والتي تحدد على الفور انتماءاتهم الاجتماعية والقبلية”.

بائع العصير المغربي بزيه التقليدي
بائع العصير المغربي بزيه التقليدي

السواد المضيء

تلتقط ليلى العلوي ملامح “المغاربة” وتضعها في خلفية سوداء، مع تسليط إضاءة حادة على الوجوه، يجعلها ناظرة إلينا بقوة، وهي تحدق بنظرات ثاقبة. وفي مقابل الإضاءة الناعمة، تصبح الإضاءة الحادة في حاجة إلى خلفية سوداء، لتخفي الظل الصارخ الناتج عن قوة الإضاءة. كما أن غياب أي خلفية للصورة، بما في ذلك الخلفية البيضاء أو الملونة، يضع شخصيات ليلى العلوي في حياد تام.

ولعل هذا ما يؤكد تلك الخلاصة التي انتهى إليها غي غوتيي في دراسته للصورة الفوتوغرافية، حين يرى أنها “فضاء مستقل” بذاته، إذ لا يحيل المغربي الذي صورته العلوي على شخص موجود في الواقع بقدر ما يحيل على وجوده في وضعية تصوير، وجودا فنيا فوتوغرافيا، وهو يقف ماثلا أمام آلة التصوير، يحدق فيها بمقدار ما تحدق فيه إلى أن تلتقط صورته، بعد أن تستوعب ملامحه وتستطيع أن تتذكرها وأن تخلدها إلى الأبد. وذلك في لحظة لا يمكن أن تتكرر، لتغدو الصورة مستقلة عن الزمن، وعن الوجود نفسه.

هكذا، تلتمع وجوه المغاربة في خلفية سوداء، هي أشبه ما تكون ببرق خاطف يفاجئ الظلام، ظلام ما أن تسكب عليه المبدعة الراحلة ضياء حتى تبدو لنا وجوه المغاربة في هذا المعرض. فكأنما تسلط الضياء على الظلام أو العكس، مثلما يقول أبو نواس في بيت شعري مضيء: رأت شخص الرقيب على التداني/ فأسبلت الظلام على الضياء.

ولعل هذا ما تنبه إليه القيم على المعرض الكاتب الفرنسي غيوم دو سارد، وهو يرى أنه “من المستحيل تماما ألا ينبهر الإنسان بالبعد الفني العميق لصور ليلى العلوي. فكبار فناني البورتريه في تاريخ الفن قد لجأوا دوما إلى استعمال التقنية التي تبنتها العلوي، أي الخلفية المحايدة (وهي هنا الأسود)، والمواجهة الواضحة بين الشخص وعين الكاميرا”. ذلك السواد الذي يسطع من قتامته وميض الصور.

فوتوغرافية جوالة

برق خاطف يفاجئ الظلام
برق خاطف يفاجئ الظلام

كانت ليلى العلوي فوتوغرافية جوالة، تحمل معها ذلك الأستوديو المتنقل حيثما توجهت، لتلتقط الصور التي تسترعي انتباهها. وقد أنجزت معرض “المغاربة” على مدى أربع سنوات، ما بين 2010 و2014، وهي تتنقل بين مختلف جهات المغرب، على اختلاف ثقافاته وثرائها.

 وفي سبيل إبراز هذا الثراء والتنوع، ركزت عدسة الفوتوغرافية على اللباس، باعتباره دليل المُشاهد للتعرف إلى الجغرافيا البشرية الأصيلة لبلاد المغرب. هذه الاستراتيجية الجمالية، وإن أدت في بعض الأحيان إلى نظرة فولكلورية نمطية، إلا أن براعة التصوير الفوتوغرافي، بقواعده وأصوله الأكاديمية، يرفع أعمال ليلى العلوي إلى مصاف المعارض الفوتوغرافية المصنفة.

بعد معرض “المغاربة”، واصلت ليلى العلوي رحلتها الفوتوغرافية، وهي تحمل معها استوديوها كاملا، إلى أن حطت الرحال بدولة بوركينا فاصو، في مهمة التقاط صور لصالح منظمة العفو الدولية، هي التي كانت تؤكد لنا أن للصورة مهمة إنسانية دائما.

هنالك في العاصمة البوركينابية، سوف تتوقف العلوي عن التقاط صورة أخرى لهذا العالم، بعد أن لقيت حتفها في حادث إرهابي يؤمن بالظلام فقط، ولا يؤمن بالضياء الذي نشرته الراحلة على وجوه “المغاربة” وكل الذين شاهدوا أعمالها الفوتوغرافية والإنسانية المضيئة.

14