الصين تغرق العالم بنماذج ذكاء اصطناعي مفتوحة للجميع

كَرَمٌ صيني أم رَدٌّ مبكر على حرب تكنولوجية بدأتها الولايات المتحدة.
الجمعة 2025/03/28
جرس إنذار ونموذج مثير للإعجاب

بعد أن توقع العالم استكانة الصين وقبولها بالهزيمة أمام الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة عليها وحالت دون وصولها إلى شرائح إلكترونية متطورة، ردت بكين الصاع صاعين، وها هي اليوم تفاجئ العالم مغرقة الأسواق بنماذج ذكاء اصطناعي متطورة.

إلى وقت قريب كانت الولايات المتحدة تظن أنها ضمنت بقاء الصين خارج لعبة الذكاء الاصطناعي التي ستمهد أمامها الطريق للسيطرة على العالم، اقتصاديا وأمنيا. فالجميع متفق على أن من يمتلك البيانات يمتلك ليس فقط الذكاء الاصطناعي بل العالم بأسره.

الإدارة الأميركية كانت ترى في الذكاء الاصطناعي حصان طروادة الذي يمكن بواسطته اختراق كل الدول التي لن يكون بإمكانها فعل شيء سوى القبول بهذا الانتهاك لبيانات مواطنيها. حتى حلفاء الولايات المتحدة المقربين احتفوا بالنجاح الصيني، على الأقل خفية، ما يدفع لهذا الاعتقاد التحذيرات التي يطلقها ساسة غربيون من سيطرة شركات التكنولوجيا الذكية على العالم.

آخر التحذيرات جاءت على لسان وزير الخارجية الألماني الأسبق زيغمار غابريل الذي يترأس جمعية “جسور الأطلسي”، في تصريحات لصحيفة “راينيشه بوست” الألمانية جاء فيها أن السيناريو الأسوأ بالنسبة إليه هو “أن يتمكن المليارديرات في دائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تشكيل السياسة بأنفسهم بصفة مستمرة، على الرغم من أنهم لم ينتخبوا مطلقا،” مضيفا أن ترامب بالنسبة إلى رؤساء شركات التكنولوجيا “مجرد أحمق مفيد،” وقال “من المفترض أن يفكك لهم المؤسسات الديمقراطية ويزيل الحواجز أمام الأعمال التجارية،” مضيفا أنه يعتبرهم “أكثر خطورة بكثير من دونالد ترامب نفسه.”

وعندما سئل عن أفراد محددين، قال غابريل “بالطبع، إيلون ماسك أولهم، وكذلك الملياردير المولود في ألمانيا بيتر ثيل. إنهما ينتميان إلى تيار فكري يميني متطرف تحرري يسعى إلى القضاء على المبادئ الديمقراطية.”

زيغمار غابريل: ترامب مقارنة برؤساء شركات التكنولوجيا مجرد أحمق مفيد
زيغمار غابريل: ترامب مقارنة برؤساء شركات التكنولوجيا مجرد أحمق مفيد

فخوف الأوروبيين ليس فقط على الديمقراطية. خوفهم الأول أن يتيح احتكار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، الذي اختبر العالم مدى أهميتها، انفراد الولايات المتحدة بسلطة اتخاذ القرارات التي خبروها مؤخرا بإعلان دونالد ترامب فرض أداءات ضريبية على السلع الواردة من دولهم إلى الولايات المتحدة.

ومنذ أقل من شهرين طرحت الصين نموذجا للذكاء الاصطناعي “ديب سيك” رأى فيه دونالد ترامب “جرس إنذار”، وقال عنه الرئيس التنفيذي لأوبن إيه آي سام ألتمان أنه “نموذج مثير للإعجاب،” ومن جانبها أعلنت ميتا عن تشكيل أربع “غرف حرب” بقيادة مارك زوكربيرغ للتعامل مع ما أسمته بالتطورات المذهلة لشركة صينية ناشئة.

وحدث ذلك رغم التشدد الأميركي على تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، بهدف منع وصول رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين. ورغم ذلك، سرعان ما تلت الخطوة الصينية خطوات أخرى. لتلحق بـ”ديب سيك” نماذج أخرى متطورة مفتوحة المصدر، أتاحتها الصين للعموم مجانا، لتبرز تساؤلات عديدة من  خبراء ومحللين عن دوافع الصين من وراء ذلك وهل يمكن تفسير ذلك على أنه خطوة انتقامية، وأي مخاطر قد تنجم عن ذلك؟

وعلى عكس الخطوات الأميركية، لم تكرر الصين تجربتها التاريخية وتحمي نفسها بجدار عظيم، هذه المرة حول التكنولوجيا الذكية، بل اختارت مسارا آخر هو إغراق العالم بنماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا، مشكلة بذلك صدمة للعاملين في وادي السيليكون وداخل البيت الأبيض نفسه، بما في ذلك شلة من المستشارين التكنولوجيين المليارديرات الذين أحاط ترامب نفسه بهم، وأشار إليهم زيغمار غابريل في تحذيراته مؤخرا.

فالصين طرحت نماذج متطورة مجانية يمكن لأي شخص تحميلها والتعديل عليها، وإن لم يكن هذا انتقاما فماذا يمكن تسميته؟ منذ ظهور النسخة الأولى من “ديب سيك” DeepSeek R1 لأول مرة في يناير 2025، والذي اعتبره البعض رداً صينياً على سلسلة OpenAI – o1 من أوبن إيه آي، تبعتها موجة من النماذج ذات القدرات المتزايدة.

وإذا كانت ردة الفعل في أسواق المال في وول ستريت سلبية، إلا أنها وكما يمكن أن نتوقع كانت إيجابية جدا على الأسواق الصينية “مذهلة” بحسب التوصيف الذي استخدمته صحيفة الإيكونوميست، حيث ارتفع مؤشر هانغ سنغ للتكنولوجيا، الذي يتتبع أكبر شركات التكنولوجيا الصينية المدرجة في هونغ كونغ، بأكثر من 40 في المئة منذ منتصف يناير الماضي.

وتزعم شركة “علي بابا” الصينية أن أحدث نموذج ذكاء اصطناعي لديها QwQ-32B  ينافس DeepSeek R1 وقد حقق أداءً جيدًا في اختبارات القياس القياسية الرسمية. وفي كل بضعة أسابيع يظهر نموذج آخر، مما يدفع حدود ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر.

تيم بيرنرز لي: الإنترنت منصة مفتوحة تعزز التعاون وليس أداة لتحقيق الربح
تيم بيرنرز لي: الإنترنت منصة مفتوحة تعزز التعاون وليس أداة لتحقيق الربح

وبحسب صحيفة فاينانشال تايمز، قد يبدو هذا التصرف من جانب الصين للوهلة الأولى تصريحا بأن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مفتوحًا للعالم، وليس فقط لحفنة من الشركات. ولكن في عالم الأعمال، نادرًا ما يكون الكرم دون إستراتيجية. وهنا لا مناص من التساؤل لماذا تُتيح الصين الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر؟ هل هو مجرد موقف أخلاقي، أم وراء الأكمة ما وراءها؟ خاصة أن الجميع مقتنع اليوم أن لا شيء مجانيا في هذا العالم، حتى الهواء الذي نتنفسه.

ذكرني موقف الصين بموقف مماثل رافق ظهور الإنترنت للوجود، وأثار دهشتي حينها. أقصد بحديثي موقف مخترع الإنترنت عالم الحاسوب الإنجليزي تيم بيرنرز لي، الذي طور في عام 1989 نظامًا لإدارة المعلومات أصبح لاحقًا ما نعرفه اليوم بـ”الشبكة العنكبوتية العالمية”، وقام أيضا بتطوير أول متصفح ويب، ممهدا بذلك الطريق لظهور الإنترنت كما نعرفها الآن.

اختار بيرنرز لي أن يترك اختراعه مفتوحًا للجميع، بدلاً من تسجيله كبراءة اختراع أو الاستفادة منه تجاريًا. في عام 1993، قرر مع زملائه في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN جعل تقنيات الويب الأساسية متاحة مجانًا للعالم. هذا القرار كان حاسمًا في انتشار الإنترنت السريع وجعلها متاحة للجميع، حيث سمح للمطورين والشركات باستخدام التكنولوجيا دون قيود أو دفع رسوم.

تيم بيرنرز لي كان يؤمن أن الإنترنت يجب أن تكون منصة مفتوحة تعزز التعاون والابتكار، وليس أداة لتحقيق الربح الشخصي، على عكس صبيان الذكاء الاصطناعي اليوم، الذين أرادوا أن يتحولوا إلى مليارديرات خلال 24 ساعة، وتحقق لهم ذلك. وعلى العكس أيضا من الإدارة الأميركية التي أرادت أن  تسيطر على العالم باحتكار التكنولوجيا الذكية وامتلاك البيانات.نعود إلى الصين ودوافعها من وراء ترك نماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة مفتوحة للجميع.

هناك من يقول أنها رد مبكر من بكين في الحرب التكنولوجية الأميركية – الصينية شنتها الصين ضد الولايات المتحدة، لتحرمها من استثمار الذكاء الاصطناعي كمنتج حصري. لماذا ندفع ثمن نماذج مغلقة إذا كان هناك بديل مجانيّ أكثر كفاءة!

لا أعتقد أن بمقدور أيّ منا تقديم جواب قاطع حول ذلك الآن. علينا أن ننتظر قليلا قبل أن نتأكد من دوافع الصين الحقيقية. وإلى أن يحين الوقت لمعرفة الجواب نكتفي بتقديم الشكر للصين على كرمها الكبير.

12