الصين تبدّل دبلوماسيتها.. فهل استيقظ تنينها النائم

رأت الصين أن إبحار حاملات طائراتها بالقرب من تايوان “أمر طبيعي تماما”، وذلك بعد أن أعلنت الجزيرة، التي تتمتع بالحكم الذاتي الأربعاء 23 أكتوبر، أن سفينة لياوينغ التابعة لبكين عبرت المضيق الذي يفصلها عن البرّ الرئيسي معتبرة ذلك "عملا حربيا".
"الأمر الطبيعي" الذي اعتبرته تايوان بأنه "عمل حربي"، يؤكّد أن هناك تغييرا جديا في دبلوماسية الصين في تعاطيها مع الأحداث والتطورات الدولية. فعلى ما يبدو انتهت “دبلوماسية الظل” الصينية مع رحيل الزعيم دنغ شياوبينغ، القائل إن بكين يجب أن “تخفي قوتها وتتمهل” لتبدأ دبلوماسية جديدة تحاكي المرحلة القادمة لما بعد الهيمنة الغربية.
أدركت الدبلوماسية الخارجية مع الزعيم الحالي شي جينبينغ أن السير على طريق إحداث صدمة إيجابية في النظام العالمي لا يكون عبر إخفاء القوة، ولن يحصل إن كان نمط السير متمهلا. لهذا، فإن إطلاق السفير الصيني السابق لدى بريطانيا ليو سياو مينغ دبلوماسية “الذئب المحارب” راقت للزعيم شي الذي دعا، السبت 19 أكتوبر الماضي، قوات بلاده إلى تعزيز استعدادها للحرب، بعد أيام فقط من إجراء بكين تدريبات عسكرية واسعة النطاق حول تايوان، وذلك حسب ما ذكرت وسائل إعلام رسمية.
هذا وكانت بكين قد أطلقت، الاثنين 14 أكتوبر الماضي، مناورات عسكرية تهدف إلى تطويق تايوان من خلال نشر طائرات وسفن، حسبما أعلنت وزارة الدفاع الصينية. وقالت بكين إن الهدف من المناورات، التي أطلق عليها اسم “السيف المشترك 2024 بي”، هو “اختبار القدرات العمليات المشتركة للقوات الصينية”، بالمقابل، أعلنت تايبيه أنها نشرت القوات المناسبة ردا على إطلاق الصين مناوراتها العسكرية.
لكنّ من يتابع سير الأحداث يدرك أنّ دبلوماسية شي قد لا تتوقف عند “الذئب المحارب”، بل هي ذاهبة نحو إيقاظ التنين النائم. فدبلوماسية “الذئب المحارب” استعراضية تقوم على إطلاق العنان للسفراء الصينيين في الخارج، لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الدفاع عن الحزب الشيوعي والترويج له. لهذا فهي لا تحاكي استفزازات واشنطن في شبه الجزيرة التايوانية، لاسيما في ما يخص سياسة “الصين الموحدة”، فبات التساؤل عن فاعلية إيقاظ التنين كحاجة للصين لمحاكاة التطورات الميدانية، أم سيبقى في سباته إلى أن تأتي الساعة؟
هناك من يعتبر أن ما حذّر منه الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت سابقا، بات العالم أمامه اليوم. وإن قوله، وهو في خضمّ قراءته لواقع آسيا والعالم، من أن “الصين تنين نائم، لا توقظوه، لأنه عندما يستيقظ سيهتزّ العالم”، هو قراءة لما سيكون عليه عالمنا اليوم، فهل سيهتز؟
لم يعاصر إمبراطور فرنسا صاحب هذه المقولة الصين الحالية، لكنه كان يتمتع بالفطنة لفهم قوتها الهائلة وأهميتها المستقبلية، حيث يجد البعض أنها أثبتت بعد قرنين من التوقع صحة النبوءة. لكن نابليون بنى تصوره هذا بينما كانت إمبراطوريته تشهد تقهقرا في انتشارها، حيث لم يكن ليتصور أن تخرج إلى العالم قوة عملاقة على كافة الصعد والمتمثلة في أميركا لتصبغ “الأمركة” على النظام العالمي.
◙ الدبلوماسية الخارجية مع شي جينبينغ أدركت أن السير على طريق إحداث صدمة إيجابية في النظام العالمي لا يكون عبر إخفاء القوة
يستمر صمت الصين رغم ساحات القتال الساخنة في العالم التي ينغمس فيها حلفاؤها الرئيسيون، تحديدا روسيا التي لم ينفك زعيمها فلاديمير بوتين يطلق الدعوة بإصرار للعمل على إحداث تغيير في النظام الدولي القائم. فالزعيم الروسي لا يترك مناسبة إلا ويعلن ذلك، خصوصا أن الدب الروسي استيقظ منذ عام 2014 وذهب نحو ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، رغم المعارضة الغربية، وها هو اليوم يخوض حربا مفتوحة على كافة الاحتمالات مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) على خلفية اجتياحه لأوكرانيا.
فشلت روسيا في حربها مع الغرب لإيقاظ التنين النائم، فسلكت طريقا مختلفة في المواجهة من خلال إطلاقها مفاجأة مدعومة صينيا، برز ذلك من خلال ما تمّ التأكيد عليه في قمة مجموعة بريكس التي انعقدت الأربعاء 23 أكتوبر الجاري في قازان الروسية، عن ضرورة إيجاد عملة بديلة عن الدولار للتبادلات التجارية، الذي تعتمده واشنطن كسياسية “عقابية”. بغض النظر إن كانت هناك عقبات ستحدّ من نجاح هذه الخطوة، إلا أنّها ستفتح حتما في المجال لخطوات أخرى في المستقبل بهدف “إزاحة” الهيمنة الغربية على النظام العالمي.
ليست هناك مؤشرات حقيقية تؤكد استيقاظ ذلك التنين، لأن أولويات الصين قد لا تلتقي مع أولويات حلفائها، رغم رغبتها في تعديل النظام الدولي. لكن الصين تحتاج إلى عدوّ قوي ومتمكن على الساحة الدولية، متمثلا في الولايات المتحدة، لأن الاستفزازات الأميركية لا تضعف من عزيمة الصين بل تحفز شركاتها نحو المزيد من التطور، وما شركات الاتصالات الصينية إلا نموذج على ذلك.
لم يعد مستغربا هذا الصمت الصيني، والذي يحلله البعض بأن بكين ليست مهتمة بأيّ حرب مباشرة مع الولايات المتحدة، فهي في حاجة إلى تعزيز اقتصادها الذي شهد تراجعا في النمو في الفترة الأخيرة. لقد أعلنت وزارة المالية في الصين السبت 12 أكتوبر الماضي، أنها ستطرح سلة من التدابير السياسية لدعم الاقتصاد، بالإضافة إلى دراسة أدوات جديدة مرتبطة بالسياسة النقدية، من دون إعطاء أيّ حجم محدد للخطوات المستقبلية وفق بلومبيرغ.
لهذا قد تكون روسيا أخذت قرار المواجهة بشكل متسرع دون التنسيق مع بكين، التي تستمهل وضع نفسها في صراع مع الغرب. ويدرك الصيني أن مجموعة بريكس ترتكز على الاقتصاد الصيني، وأن اقتصادها لا يمكنه تحقيق النمو إلا بالانفتاح على الغرب لتسهيل التصدير، في حين هي تنظر إلى حلفائها الروسي والإيراني تحديدا كمصادر للطاقة التي تفرض عليهما الاستيراد بأسعار أدنى من سعر السوق لحاجتهما إلى التصدير لتمويل ميزانية الحرب.
التنين الصيني لا يريد أن يستيقظ وعلى حدوده دولة هندية تحلم بعودة مجدها السابق، ومن خلال فرض منافسة شرسة مع الصين لاحتلال المركز الأول في آسيا وما صراع الممرات إلا نموذج بين ممر “الحزام والطريق” الصيني الذي أعلن عنه الزعيم شي عام 2013، والممر الاقتصادي الهندي الذي تم التوقيع عليه في نيودلهي عام 2023.
لن يستيقظ التنين حتى لو دخلت روسيا في حرب مع حلف الناتو وشاركت معها كوريا الشمالية، ولن يستيقظ رغم ما تعانيه إيران وأذرعها في حرب إسرائيل على الشرق الأوسط، لأن هذا لا يهدد أمن قومها. سيبقى نائما ذلك التنين لأن بكين غير جاهزة لتصبح مركزا للثقل المالي العالمي، وطالما أن شركاتها لم تزل تنتظر براءات الاختراع الغربي لتستنسخه وتقوم بتشغيله وما الذكاء الاصطناعي إلا نموذج على هذا.