الصدر يعرض ميليشياته لتنزع سلاح الميليشيات لصالح الدولة

الخطاب السياسي لزعيم التيار الصدري وقائد ميليشيا سرايا السلام نموذج لتداخل السلطات في العراق وانتفاء الحدود بين صلاحيات واختصاصات الدولة من جهة، ونفوذ رجال الدين وقادة الفصائل المسلّحة من جهة مقابلة، بما في ذلك صلاحية احتكار السلاح وإدارة الشأن الأمني الحسّاس والمؤثّر على باقي مظاهر الحياة.
بغداد- يبدي رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر حرصا متزايدا على الظهور بمظهر رجل الدولة بينما تتعاظم طموحاته السياسية واضعا الإمساك بمقاليد السلطة التنفيذية هدفا لمشاركة تياره في الانتخابات البرلمانية القادمة.
ويركّز زعيم التيار الصدري خطابه على ضبط فوضى السلاح وكبح الهجمات التي تشنّها فصائل مسلّحة على القوات الأجنبية في البلاد وقوافل إمدادها وعلى مقرّ السفارة الأميركية في بغداد، على الرغم من أنّ الصدر نفسه يقود إحدى أقوى الميليشيات وهي سرايا السلام وريثة ميليشيا جيش المهدي التي سبق لها خوض مواجهة ضدّ القوات الحكومية في عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
كما سبق له خلال الانتفاضة العارمة التي شهدتها مدن وسط وجنوب العراق بدءا من أكتوبر 2019 أن وظّف ميليشيا أطلق عليها اسم القبّعات الزرق في مواجهة المحتجّين في الشوارع وساحات الاعتصام، ضمن مشاركته في ضرب الحراك الاحتجاجي حماية للنظام الذي يُعتبر الصدر جزءا منه.

الميليشيات الشيعية المسلّحة أغلبها مرتبط بإيران
وعرض زعيم التيار الصدري على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي المساعدة لإنهاء ظاهرة السلاح المنفلت في البلاد.
وقال في بيان إنّ “على الحكومة العراقية العمل بجد وحزم ضد كل الأعمال المسلحة التي تستهدف أمن العراق والمواطنين مهما كان انتماء الفاعلين”، مضيفا قوله “أنا على علم أنهم (المسلّحون الذين يشنون الهجمات) مأجورون لزعزعة الأمن والاستقرار ويسعون إلى إضعاف هيبة الدولة وتشويه سمعة المقاومة الشريفة لينتفع بذلك من لهم أجندات خارجية”.
ويضفي عنوان “المقاومة” مشروعية على العشرات من الميليشيات الشيعية المسلّحة ومن ضمنها سرايا السلام، وهي ميليشيات لا تخضع لسلطة الدولة بل إنّ أغلبها مرتبط بإيران ويسهر على تنفيذ أجندتها وحراسة نفوذها في البلد والمنطقة وذلك على الرغم من انضواء أغلب الفصائل الشيعية العراقية تحت هيئة الحشد الشعبي التي تعتبر هيئة حكومية دون أن تكون الميليشيات المشكلّة لها خاضعة بالفعل لأوامر القيادات الرسمية وعلى رأسها القائد العام للقوات المسلّحة الذي هو رئيس الوزراء.
وشدّد الصدر على القول إنّ “هذا الانفلات الأمني وانفلات السلاح يجب ألا يدوم”، داعيا الحكومة إلى “الإسراع للقيام بعملها على أكمل وجه”، وعارضا خدماته في هذا المجال بالقول “نحن مستعدون للتعاون”.
ومعروف عن الصدر خطابه الواثق الذي يحرص من خلاله على وضع نفسه في مرتبة صاحب السلطة المطلقة من خلال توجيه الأوامر والإنذارات ومنح المهل الزمنية المحدودة، وهو ما يتناقض جذريا مع منطق الدولة الذي يتنباه عندما يدعو لضبط فوضى السلاح.
ولزعيم التيار الصدري مشاركة في العملية السياسية القائمة منذ سنة 2003 لا يمكن مقارنتها بالأدوار القيادية في الدولة التي قام بها كبار خصومه ومنافسيه من داخل العائلة السياسية الشيعية.

خطاب الصدر يركز على ضبط فوضى السلاح وكبح الهجمات التي تشنّها فصائل مسلّحة على القوات الأجنبية في البلاد
لكنّ رجل الدين المنتمي إلى أسرة مرموقة في مجال التديّن الشيعي في العراق استثمر عدم تورّطه بشكل كبير في تجربة الحكم الفاشلة التي جرّت على الطبقة الحاكمة غضبا شعبيا عارما، ليصوّر نفسه مختلفا عن باقي قادة الأحزاب والميليشيات الشيعية، وليقدّم نفسه كناطق باسم الشعب ومدافع عن قضاياه وكداعية إصلاح ومحارب للفساد.
ويرى الصدر في فشل منافسيه في الحكم فرصة للوصول إلى المكانة القيادية في أعلى هرم السلطة التي يرى نفسه جديرا بها، لاسيما وأنّ استحقاقا انتخابيا هاما سيجري في أكتوبر القادم في ظلّ مستجدّات كثيرة قد تفضي إلى إعادة رسم خارطة الحكم في البلاد.
وأعلن الصدر في وقت سابق أن تياره سيخوض الانتخابات المبكّرة بهدف واضح هو الحصول على أغلبية برلمانية مريحة تخوّل له تشكيل الحكومة القادمة وتَرَؤُّسها، ما يعني بالنتيجة أن يصبح هو بمثابة مرشد أعلى يمسك بزمام السلطتين التشريعية والتنفيذية معا.
وقال آنذاك في تغريدات على تويتر “إن بقيتُ وبقيت الحياة سأتابع الأحداث عن كثب وبدقة، فإن وجدت أن الانتخابات ستسفر عن أغلبية صدرية في مجلس النواب وأنهم (أعضاء تياره) سيحصلون على رئاسة الوزراء، وبالتالي سأتمكن بمعونتهم وكما تعاهدنا سوية، من إكمال مشروع الإصلاح من الداخل، سأقرر خَوْضَكُمْ للانتخابات”.
وبعد مضي ثمانية عشر عاما على تجربة الحكم التي تقودها بشكل رئيسي الأحزاب الشيعية ما يزال الأمن في العراق يشكل معضلة مؤثرة على مختلف مظاهر الحياة في البلد الذي حسم قبل أكثر من ثلاث سنوات حربا عسكرية ضارية ضدّ تنظيم داعش ليواجه مشكلة تغوّل الميليشيات التي شاركت بفعالية في تلك الحرب وحصلت بفضلها على مزيد من الأسلحة والموارد المالية.
الصدر حريص على وضع نفسه في مرتبة صاحب السلطة المطلقة من خلال توجيه الأوامر والإنذارات ومنح المهل الزمنية
ويُستخدم ذلك السلاح اليوم لأغراض سياسية يتصل أغلبها بسياسة إيران في المنطقة وصراعها ضدّ الولايات المتّحدة. وتتهم واشنطن كتائب حزب الله العراقي، إحدى أشرس الميليشيات العراقية وأكثرها ارتباطا بالحرس الثوري الإيراني، بالوقوف وراء هجمات صاروخية تستهدف منذ أشهر السفارة الأميركية في بغداد وقواعد عسكرية عراقية تستضيف جنودا أميركيين.
وتزايدت وتيرة هذه الهجمات منذ اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني والقائد الميداني للحشد الشعبي أبومهدي المهندس في غارة جوية أميركية ببغداد في يناير 2020.
ورغم أنّ مقتدى الصدر بنى جزءا كبيرا من شعبيته على مناهضة الغزو الأميركي للعراق، فإنّه يبدو اليوم حريصا على الاقتراب من منطق الدولة بمعارضته استهداف المصالح الأجنبية في البلاد ليقينه بأن استرضاء المجتمع الدولي شرط أساسي للوصول إلى سدّة الحكم وممارسته.