الصحافة الثقافية حائرة بين الاحتفاء بالكبار وتقديم المبدعين الشباب

الكثير من المنابر الثقافية العربية لا تركز بالشكل المطلوب على إبداعات الشباب، وإن حاولت الإحاطة أحيانا بما يقدمونه ولكن بنفس خبري بحت، فغابت السجالات وتراجع النقد والبحث، ما جعل الأجيال الجديدة أمام نوع من الخواء لا تتردد فيه سوى الأسماء والظواهر المكرسة سابقا. “العرب” تبحث في هذه المسألة مع عدد من المختصين.
القاهرة - ما إن تحين ذكرى ميلاد أو وفاة أحد كبار الكُتاب عبر العصور، حتى تنبري الصحف الثقافية في مصر لتفرد الصفحات وتعد الملفات وتنشر الأعداد الخاصة منها احتفاءً بالمناسبة وصاحبها. يحدث هذا كل عام. وتظل الأسماء الكبرى البارزة تتكرر، وتكاد لا تتغير.
أصبح الأمر أقرب إلى الظاهرة، ما دفع كثيرين إلى التساؤل عن جدواها وجديتها، فمع الاعتراف بالفضل والأستاذية لكبار المبدعين المنتمين إلى أجيال سابقة، إلا أن تساؤلات عدة تفرض نفسها على المسألة.
هل هناك الجديد الذي يمكن قوله في كل مناسبة عن كبار الأساتذة أم أن الأمر لا يعدو تكرارا لما قيل عشرات المرات؟ أليس من الأجدى أن تشتبك الصحافة الثقافية في مصر مع القضايا المعاصرة التي تحتاج الكثير من الفحص والتحليل وطرح الأفكار والحلول بدلا من الحنين إلى الماضي (نوستالجيا)؟
شيوخ الغد
وإذا كان الكبار قد بنوا صروح أفكارهم وإبداعاتهم التي أضحت مدارس يتعلم بين جنباتها الكُتاب الجدد، لماذا لا يتجه اهتمام الصحف إلى هؤلاء الأخيرين، وما الذي يمنع الحلم أن يظهر لدينا نجيب محفوظ آخر ويوسف إدريس جديد؟
الملفت أن ظاهرة جدل التركيز على القديم وعدم تسليط الضوء على الجديد تدور حولها نقاشات داخل أروقة الصحف الثقافية نفسها، ووصفت مصادر صحافية لـ”العرب” الإفراط في تناول الأسماء الكبرى القديمة بأنه يتم “بشكل مرعب” دون إتاحة الفرصة كثيرا للمبدعين الجدد كي يعبروا عن أنفسهم ورؤاهم من خلال إجراء حوارات صحافية معهم أو تناول أعمالهم الأدبية بالكتابات النقدية بشكل كاف.
زادت المصادر بأن الظاهرة لا تقتصر على السلوك الصحفي وحده، متسائلة “هل يمكن أن يختار القائمون على معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي يعقد دورته الجديدة بعد أسابيع قليلة، شخصية المعرض لتكون أحد المبدعين الجدد أو اتجاها معينا في الكتابة يعبر عنه مجموعة من الشباب، بعيدا عن الأسماء المهمة القديمة؟ هل يجرؤون على ذلك؟ علما بأن هذا لو حدث سيؤدي إلى زخم أكبر وترويج للحدث في أوساط الشباب من الكُتاب والقراء معا.”
وتعترض مصادر صحافية أخرى على اعتبار الصحف والصفحات الثقافية متهمة في هذا الشأن، وتوضح أنها تقوم بدورها تجاه المبدعين الجدد عبر إفراد مساحات جيدة لنشر إبداعاتهم في القصة القصيرة والشعر، فضلا عن النقد، بعد إجراء عمليات فرز واختيار من بين ما يرد إلى الصحف من عشرات المشاركات، بغض النظر عن أسماء أصحابها.
اعترفت المصادر التي تحدثت لـ”العرب” أن المساحات الصحفية عموما تظل محدودة بالطبع بالنسبة إلى أعداد المبدعين حاليا في مصر وحجم وكثافة الإبداع، وقالت: “هذه هي الظروف وتلك هي الإمكانات. نحن نفعل ما بوسعنا قدر الإمكان. وقدمنا بالفعل أسماء جديدة بالنشر لهم لأول مرة.”
يرى بهاء حسب الله أستاذ الأدب العربي وعضو المجلس الأعلى للثقافة بمصر أنه لا بد من الإقرار بأن الصحافة الثقافية تؤدي دورها في قلب ظروف بالغة الصعوبة لاعتبارين مهمين: الأول: الدفق الإبداعي الجديد الذي تمثله عشرات الأعمال الأدبية والروائية التي تصدر، ما يحتاج بشدة إلى المتابعة والتحليل والقراءة المنهجية لرصد الحركة الإبداعية. والثاني: ما تحرص عليه الصفحات الثقافية من الوقوف كل فترة أمام النتاج القديم لرموزنا الأدبية الكبيرة في مناسبات ذكرى وفاتهم أو ميلادهم، أمثال طه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
ويعتبر حسب الله، كما يقول لـ”العرب”، أن مبدأ إمساك العصا من المنتصف في هذه المسألة لا غبار عليه، لكنه يميل إلى أن رصد الحركة الإبداعية في فترتنا الراهنة هي الأولى بالاهتمام بالثورة الروائية والقصصية في مصر، “لسنا في صدى المصطلح الذي صكه الناقد الراحل جابر عصفور وهو (زمن الرواية) لكننا في صدى مصطلح (ثورة الرواية) في مصر، والأمر ذاته ينطبق على القصة القصيرة، وما نسميه حاليًا كذلك بأدب الومضة.”
ويقول حسب الله إن هذه الثورة جاءت للأسف على حساب حركة الشعر المعاصرة، خاصة مع بزوغ أسماء روائية متميزة من الأجيال الجديدة، لا يتسع المجال لسردها، من هنا يأتي دور الصفحات الثقافية لمتابعة هذا النشاط الروائي والقصصي في مصر، والذي ترك صداه في عالمنا العربي الكبير.
ويرى أن الأجيال الروائية الجديدة في حاجة حقيقية إلى دعم من الدولة ومن دور النشر ومن الصحافة الثقافية والأدبية في المؤسسات الكبيرة، منوها بأن منبرا كملحق جريدة “الأهرام” مثلا يفعل خيرا بعنايته بنشر الأعمال الجديدة لجيل كبير من المبدعين الجدد كل أسبوع ما يمثل لهم متنفسًا شرعيًا للنشر والذيوع والانتشار.
وأكد الناقد بهاء حسب الله لـ”العرب” أن هذا لا يمنع من أن نقف بين حين وآخر أمام نتاج الجيل المؤسس من كبار مبدعينا، لكنه يضع شرطا لذلك، هو أن يكون هذا التوقف في ضوء ما يمكن أن نكتشفه ونضيفه في أدب هؤلاء الكبار، وإلا فالكلام مكرور ولا جديد فيه، وهذا ما يجب أن تنتبه إليه صفحاتنا الثقافية والأدبية.
ويلفت النظر إلى الأهمية البالغة لأن تهتم الصحافة الثقافية بما يمكن تسميته بفكر القضايا، مثل قضية (نضوب الحركة الشعرية في مصر أمام ثورة الرواية)، إذ تتقلص الأدوار الشعرية أمام تمادي وتوسع الخريطة الروائية والقصصية، وغيرها من قضايا فكرية مهمة تجدر مناقشتها في الصحافة الثقافية.
يؤسس الناقد المصري شوقي عبدالحميد في تصريح لـ”العرب” لمسألة العلاقة بين المبدعين الجدد والأساتذة الكبار من خلال العودة إلى التاريخ، قبل أن يقدم وجهة نظره في سلوك الصحافة الثقافية في هذا الشأن.
◙ الصحافة الثقافية تعاني اليوم من تحديات كثيرة فرضتها التكنولوجيا التي خلقت نوعًا من عدم المساواة وتكافؤ الفرص
ويقدم رؤيته من منظور أن “شباب اليوم هم شيوخ الغد”، مذكرا بعبارة شهيرة للكاتب الراحل محمد حافظ رجب، عندما قال: “نحن جيل بلا أساتذة”، وهي الكلمة التي أسيء فهمها، كما يقول، إذ تصور البعض أنه ينفى وجود الأجيال السابقة، بينما أتصور كان يعني أن جيله أتى بأسلوب وصيغ جديدة، فرضها عليهم الظرف التاريخي الذي كانوا يعيشونه.
ويذكر أنه ما من إبداع إلا هو ثمرة لكل ما سبقه، مثلما الأسد يبتلع العديد من الخراف، لكنه في النهاية يظل هو الأسد. فكل كتابة هي ابنة شرعية لمحيطها الاجتماعي والسياسي، والمبدع يسعى بالدرجة الأولى إلى أن يحقق نفسه ويثبت وجوده، ويعبر عن مرحلته العمرية وتجاربه مع الحياة.
اتسعت المساحة “الزمكانية” (من ناحيتي الزمان والمكان)، كما يرى شوقي، حتى أصبح المبدع الجديد لا يستطيع أن يلم بكل ما يصدر، وحتى إن استمالته كتابة أحد من المتحققين فربما لا يستطيع أن يُلمَ بكل ما أنتجه المتحقق، فلا يستطيع إدراك ما تم من تحول في الرؤى أو الأساليب.
ويعتبر شوقي عبدالحميد في حديثه لـ”العرب” أن العناية بشباب المبدعين، هي كالعناية بالطفل، إذ تؤثر فترة الطفولة على شخصية الإنسان إلى نهاية حياته، ومثلما نطالب بالحرية للطفل، مع التوجيه من الوالدين والمدرسة، فإن شباب المبدعين يسعون بالدرجة الأولى لأن يقدموا أنفسهم، وأن يبحثوا لهم عن مساحة بين القراء والمتابعين. من هنا تأتى أهمية الصحافة الأدبية التي ضاقت مساحتها كثيرا، وتركز على الأسماء التي تحققت وأصبحت معروفة لدى الكثيرين، سعيا إلى جلب القراء في زمن قل فيه القراء.
ويشدد على أن الاهتمام بالمبدع الشاب هو اهتمام برحلة تاريخية في حياة الوطن، ورؤية جديدة للمتغيرات التي تحدث فيه، وإفساح المجال له بصورة أكبر إفساح المجال لرؤية الوطن، في الوقت الحالي، وللمستقبل، فضلا عن أنها تمنح الفرصة للمبدع لتحقيق ذاته على المستوى الشخصي، إلى جانب أن الصحافة الثقافية تمنح نفسها بذلك فرصة الاشتراك في صنع هذا المبدع الشاب، الذي سيصبح غدا بالتأكيد نجما في المجتمع.
متهم يبحث عن براءة
“الصحافة الثقافية عجوز ذهب عنها نصف جمالها،” هذا هو المنظور الذي تنطلق منه الكاتبة المصرية رشا عبادة، مدير تحرير مجلة “عالم الكتاب” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة، وتقدم رؤيتها بمهنية، متسائلة: هل الصحافة الثقافية متهم يبحث عن دليل براءة؟
وتقول لـ”العرب” إن الصحافة الثقافية وسيط لا يمكن منعه بين الكاتب والقارئ، وربما بين الوعي والجهل أيضًا، فقد حملت مسؤولية التواصل والتحقق لأجيال عظيمة من الُكتاب، قدمتهم ومنحتهم مساحات حقيقية لبناء وعي راسخ بذهن القُراء.
وتشير إلى أن هذه الصحافة، المتهمة دائمًا بالعجز عن تخطي مجدها القديم، لم تزل تلوح بعناوين مستهلكة، كعجوز ذهب عنها نصف جمالها (في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ.. ضحايا يوسف إدريس.. يحيى حقي.. توفيق الحكيم)، ما يعد أعمدة يسهل الارتكان عليها، لكنها لا يمكن أن تُقيم بمفردها طريقا مُمهدا لأجيال جادة تحفر في زحام الفضاء الإلكتروني والإصدارات الضخمة من الكتب التي تملأ رفوف دور النشر بلا رقابة.
◙ الإفراط في تناول الأسماء الكبرى القديمة يتم بشكل مبالغ فيه دون إتاحة الفرص للمبدعين الجدد كي يعبروا عن أنفسهم
وبتوازن شديد، قدمت الكاتبة المصرية الجانبين المتقابلين للقضية، قائلة “تستطيع أن تتهم الصحافة الثقافية بالتقصير والتحيز والمجاملات وقياس ما يُكتب عنه بمدى شهرة كاتبه، والعجز عن صناعة مؤثر جديد واقتصارها في الآونة الأخيرة على المواضيع التقليدية القديمة، وتغطية الأخبار الثقافية في إطار محدود، وعناوين تقترب للوظيفة وتفتقر للإبداع في العرض الحقيقي الواعي والشامل لكل مصادر الثقافة والإبداع والاشتباك الفاعل مع القارئ.”
وتضيف “لا تستطيع إنكار ما تعانيه الصحافة الثقافية من تحديات كثيرة فرضتها التكنولوجيا التي خلقت نوعًا من عدم المساواة وتكافؤ الفرص، وهذا الكم الضخم من التفاهة وسيادة التجهيل وسطحية القضايا المعروضة و(التريندات) المفبركة وقلة رأس المال الداعم للثقافة، ودور هيئات الدولة في ترسيخ الثقافة بالمدارس والجامعات والشارع بشكل فاعل، وأفكار من خارج صندوق تأدية الوظيفة الذي امتلأ عن آخره بالرتابة والتكرار”.
وتلفت رشا عبادة إلى أن هذا وذاك، كلاهما موجود، ولا يمكن إنكاره، أو إغفال نقاط ضوء تصنعها بعض المؤسسات الثقافية، بمسابقات يفوز فيها الكتاب الشباب الجدد بأعمال تستحق التشجيع والقراءة، وما يبقى فقط هو التنسيق بين هذه المؤسسات والصحافة الثقافية في محاولة لخلق خط واضح يصل الماضي الراسخ بحاضر قوي يليق بواقع ثقافي مُتغير.