الشوارع تخترق بيوتنا

يتذكر عشاق الفنان الكبير عادل إمام لما حاول استغفال خطيبته القروية التي جاءت تبحث عنه في القاهرة، بإيهامها وحتى محاولة إقناعها أن أصوات العشيقات المنبعثة من الغرفة الأخرى، هي أصوات من الخارج، وسرّ وصولها إلى البيت هو الكثافة السكانية والتصاق المباني ببعضها البعض، والضغط النفسي والذهني في حياة المدن.
لكن يبدو أن النجم الكوميدي استشرف بطريقته نمطا معيشيا نحياه الآن في بيوتنا المخترقة من طرف الشوارع، ففي الأحياء والضواحي الشعبية لم يعد غريبا أن تلتقط شتى مفردات القاموس المحظور، أو أن تسمع تفاصيل “دوشة” بين رواد الشوارع، ومختلف أشكال الخطاب المتداول، ولذلك تتلاشى العوازل تدريجيا بين البيوت والشوارع.
عادل إمام حاول التغطية على انحرافه أمام خطيبته، بأسباب الزحمة والكثافة وتلاصق الأسوار، لكن ما نعيشه الآن هو اختلال اجتماعي تليق به كل التوصيفات والمفردات، لأن فوضى وانحراف الشارع بتنا نعيشها داخل جدران بيوتنا ورغما عنّا، ففي عقيدته لا مكان لرب بيت يريد الاختلاء بأفراد أسرته، ولا لعامل متعب يريد أن يرتاح من مشقة يومه، ولا مريضا يريد أن يستكين لأوجاعه.
الكل يتحسر على الزمن الجميل، وهم أنفسهم من صنعوا الزمن التعيس، والكل يترحم على أيام كان الشارع مكملا لرسالة البيت، ولما كان الباب أو النافذة مقدسة لا يتسلل منها أيّ صوت سواء كان مريحا أو مزعجا، لكن تناسى هؤلاء أن ما نعيشه هو نتيجة طبيعية لهيمنة الفردانية والأنانية الشخصية، فالكل يفكر لنفسه وفي نفسه، غير عابئ بالآخرين.
يتداول بعض الجزائريين صورا قديمة على شبكات التواصل الاجتماعي تبرز نموذجا من متفرجي مباريات كرة القدم على المدرجات، وكأنهم في مسرح أو قاعة سينما من شدة الانتظام و”الشياكة”، لكن من يرى الآن ما يحدث لا يصدق ذلك من شدة العنف والفوضى وسوء الأدب، اضطرت الكثير لمغادرة بيوتها المجاورة للملاعب، لأن الشارع استحوذ عليها ولم تعد صالحة للسكن.
المجتمع المفكك والفردانية الطاغية سلما مفاتيحهما للرعاع الذين استولوا على الشوارع ثم البيوت، وباتوا يتحكمون في مصائر الناس ويفرضون عليهم نمطهم الحياتي، فلا مدرسة ولا مسجد ولا جمعية ولا وسيلة إعلامية، ملكت القدرة على تصويب هذا الواقع، وحتى الردع الرسمي لم يعد يجدي نفعا، فحتى السجون لم تعد تعاقب ولا تعيد التأهيل ولا التربية.
ولم يبق إلا أن نتصور إزاحة آخر السواتر بين البيوت والشوارع، وننتظر اليوم الذي يصبح فيه الشارع يعيش داخل البيت، وينتقل البيت للعيش في الشارع، ما دام المجتمع عاجزا عن فرض قاعدة ما للبيت للبيت وما للشارع للشارع، ولو أن هذا من ذاك، لأن الفوضى السائدة خارج الأسوار تتغذى من منتوج داخل الأسوار، ولا يمكن لذلك المنتوج أن يكون صالحا لو كانت عقيدة الخارج فاسدة.
وفي كل الحالات فإننا نجني ما زرعناه كمجتمع ومؤسسات، لأن هؤلاء ليسوا كائنات فضائية نزلت من السماء، بل يتوجب امتلاك الجرأة للاعتراف بأن هؤلاء هم أبناؤنا والشارع شارعنا والبيوت بيوتنا، ونحن نجني ثمرة ساهم الكل في بذرها، والعبرة في إصلاح الوضع بدل التفكير في المغادرة أو الاستعانة بنوعية جديدة من العوازل لمنع تسلسل الشارع إلى بيوتنا.