الشوارع الثقافية في العراق
خرج “شارع المتنبي” من تسميته المحلية إلى ذيوعه العربي والعالمي كونه الشارع الثقافي الوحيد في العاصمة بغداد الذي يشهد حركة يومية دؤوبة تكون ذروتها الجمعة على وجه التحديد، حيث تُعرض الكتب الثقافية في آخر إصداراتها العراقية والعربية، مثلما تُعقد الندوات الثقافية المتعددة في المركز الثقافي الممتد مع شارع المتنبي حتى نهر دجلة. وكما درجت الحالة أن يكون هذا الشارع بؤرة انطلاق لتظاهرات شعبية جمعوية ساهمت في انتشارها الفضائيات التي تحرص أن تتواجد في هذا اليوم. ومع كل هذا فشارع المتنبي أصبح شارعا سياحيا جميلا بسبب وقوعه على نهر دجلة مع وجود روافد ثقافية وتاريخية وأهمها “القشلة” العثمانية بساعتها الشهيرة حينما أصبحت مكانا لتجمع الأسر البغدادية وحاضنة للعروض التشكيلية والمسرحية والخطابية.
وليس غريبا أن نشاهد الكثير من الصحافيين والإعلاميين العرب والأجانب يتخاطفون في هذا الشارع المتميز، بسبب تواجد العديد من المثقفين والأدباء والأكاديميين والقراء والمتبضعين، كتبا لثقافات مختلطة من دون رقابة تُذكر، لهذا فكل شيء متاح ومسموح في عرضه ولا توجد رقابة ثقافية أو فكرية الا الرقابة الشخصية التي تختلف من هذا القارئ إلى ذاك، وهذه حسنة عظيمة أن يكون المناخ الكُتُبي بهذا الوصف المنفتح الذي يشكل رافداً نفسياً باهراً في جعل سوق الكتب على تنافس يومي لا ينقطع لجذب الكتاب العربي والعالمي من مصادره الرئيسية.
وعلى غرار “المتنبي” بوصفه “قلب” الحركة الثقافية العراقية أقيمت وافتتحت شوارع ثقافية كثيرة في محافظات العراق كشرايين ناقلة لهذا الدم الثقافي المركزي إلى المحافظات والأقضية والنواحي التي لا تحقق تماسا مباشرا مع العاصمة الثقافية، لذلك صارت هناك شوارع ثقافية حملت أسماء المدن أو أحد رموزها الثقافية كما حصل في بابل وشارع طه باقر، العلامة الآثاري المعروف صاحب ترجمة ومحقق كتاب جلجامش، وشارع الفراهيدي في البصرة، والفراهيدي واضع أسس علم العروض العربي وشارع كركوك الثقافي والرصيف المعرفي في ميسان وشارع الثقافة في كربلاء وشارع الكتب في ذي قار وشارع أكد في الديوانية وشارع دجلة في واسط.
وهكذا انتشرت الشوارع الثقافية بطريقة واعية ومسؤولة، ليصل الكتاب الثقافي إلى القصبات والقرى والمناطق البعيدة التي يندر أن يصلها الكتاب الحديث سابقا، وبالتالي توفرت الفرصة المثالية لاقتناء الكتاب من دون الحاجة إلى زيارة العاصمة وتجشم عناء المسافات ومخاطرها الممكنة في ظروف البلاد.
مثل هذه الشوارع التي بدأت تأخذ طريقها إلى الجمهور شعبيا لم تكن من أفكار الدولة التي لا يعنيها الهم الثقافي، بقدر ما هي أفكار المثقفين والمدنيين الذين وجدوا الفرصة ممكنة جدا للحذو حذو بغداد وتأصيل فكرة إشاعة القراءة بتوفير الكتاب إلى القارئ في مكانه ومدينته وقريته، ونعتقد أن هذه الشوارع التي بدأت تضخ الوعي القرائي هي حصيلة جهود جماعات ثقافية ومدنية أغنت بأفكارها الكتبيين المتفاعلين مع المد الثقافي الكبير الذي شهده ويشهده العراق بعد 2003، وهو أمر تحقق بشكل طبيعي مع انتشار الهم الثقافي بشيوع الكتابة والندوات الأدبية والثقافية، بما يعني التأكيد على خلق مناخ ثقافي عام يسهم فيه القارئ متعدد الاتجاهات والخبرات والوعي والثقافات.
الشوارع الثقافية التي انتشرت في عموم المحافظات ظاهرة ضدية لمناخ اسلاموي مشبّع بالكراهية واللؤم والقديم من الأفكار، ورد واسع النطاق على محاولات إنشاء جيل أمي وتجهيله تحت مسميات طائفية لم يثبت أنّ لها رصيداً من الواقع العراقي المتكافئ في نظرته إلى المجتمع وانشغالاته اليومية الكثيرة في أمورٍ هي أبعد من هذا الوصف والتوصيف الذي يحاول غلاة المتدينين تكريسه بمحاربة الثقافة المنفتحة على نوافذ العالم الكبيرة.
كاتب عراقي