الشهادات الجامعية لا تكفي لتوفير الموظف الإستراتيجي في مصر

مع التطورات الحديثة في سوق الشغل العالمية لم تعد الشهادة الجامعية في الاختصاصات التقليدية تكفي شباب مصر ليكونوا موظفين ناجحين وفق المواصفات الحديثة التي لا توفرها الدراسة التي غالبا ما يقترحها الأهل بحثا عن الوجاهة لأطفالهم، بل تتطلب خطة الموظف الإستراتيجي مهارات وكفاءات جديدة تمكن الشاب من أن يكون ناجحا في مهمته الإدارية.
القاهرة - عكس رسوب 14 ألف خريج من حملة الماجستير وتقديرات الامتياز في جامعات مصرية وغيرهم من أصحاب الشهادات المرموقة، في مسابقة توظيف 30 ألف معلم في المدارس الحكومية، إلى أي درجة أصبح الاكتفاء بالشهادة العلمية وحدها معمقا لأزمة البطالة بين الشباب دون تطوير القدرات الذاتية.
وتقدم إلى المسابقة حوالي مئة وعشرين ألف شخص من كليات مختلفة، وبعد خضوعهم للاختبارات التخصصية نجح منهم 30 ألفا، وتمت تصفية هذا العدد إلى 16 ألف فائز فقط، بعد أن خاضوا تدريبات تربوية وثقافية مرتبطة بطبيعة مهنة التدريس.
وأحدثت نتيجة المسابقة صدمة في بعض الأوساط، ودخل أعضاء مجلس النواب على خط الأزمة في محاولة للضغط على الحكومة للتراجع عن إقصاء كل هؤلاء الشباب لأنهم يحملون شهادات جامعية، وكانوا من المتفوقين في حياتهم الدراسية، لكن الجهات الرسمية رفضت الاستجابة وتمسكت بنتائج الامتحانات.
14
ألف خريج من حملة الماجستير وتقديرات الامتياز يرسبون في امتحان توظيف معلمين
ودافعت الحكومة عن قرارها بأنها اختارت الفئات الشبابية الأكثر كفاءة وقدرة على تحمل مهام الوظيفة الجديدة ولا ذنب لها في أن الآلاف اكتفوا بالشهادات ولم يطوروا أنفسهم لكسب المزيد من المهارات والخبرات التي تحتاجها سوق العمل.
وعلى مدار عقود ظلت الوظائف في مصر على مستوى المؤسسات الحكومية وبعض القطاعات الخاصة مقتصرة على من يمتلكون قاعدة علاقات قوية ولدى عائلاتهم دوائر نفوذ، لكن المعادلة تغيرت بعدما أُصيب الجهاز الإداري بتراجع في الكفاءات.
وتكمن مشكلة البعض من الشباب في أنهم لم يستوعبوا حجم التغيرات التي طرأت على احتياجات سوق العمل والتخصصات التعليمية المطلوبة للتوظيف والمهارات التي تحتاجها المهن الجديدة ويكتفون بالشهادة ولا يعملون على التطوير الذاتي.
طموحات الدولة والشباب
تصرّ الحكومة على خضوع جميع الموظفين الجدد بالجهاز الإداري في الدولة لفترة اختبارات وتدريب وتأهيل لإعادة بناء المؤسسات الرسمية بما يتناسب مع طموحات الدولة، من حيث التعامل الرقمي والتكنولوجيا الإدارية والقضاء على الروتين وتسريع وتيرة العمل إلى أقصى درجة.
وقد لا تتوافر هذه الصفات في الخريجين الجدد، لأنهم يركنون إلى الالتحاق بكليات وتخصصات دراسية عفا عليها الزمن، تماشيا مع العرف المجتمعي الذي يقدس مثل هذه التخصصات أو لعدم ثقتهم بالمجالات المعاصرة وخوفهم من تبعات عدم التوظيف مستقبلا لندرة المهن المرتبطة بها.
وتبحث الحكومة المصرية عن خريجين لديهم صفات ما يطلق عليه في العصر الحديث “الموظف الإستراتيجي”، بغض النظر عن طبيعة الشهادة الجامعية ولو كانت إجازة أو ماجستير أو دكتوراه، حيث ترغب في أن تكون لدى الموظف اليوم شخصية قيادية تهتم بالإنجاز وتتخلى عن البطء، وهما من السمات التي لا توفرها الشهادة العلمية.
ويتخوف النظام المصري من استمرار المؤسسات العمومية على نفس الوتيرة من البطء والفوضى والعشوائية، بينما تعاني الدولة من تحديات ضخمة تستدعي أن تكون لديها كوادر شابة ملتزمة وتتحمل المسؤولية، في حين يستاء الشارع من الأداء الحكومي.
البحث عن الذات
تخطط الحكومة لتعيين عشرات الآلاف من الشباب في وزارات التعليم والنقل والاتصالات والكهرباء وقطاعات الطب والصيدلة والهندسة والمدن والأحياء والطاقة، لكنها ترفض أن يكون المختارون للتوظيف مشابهين لأقرانهم الذين تم تعيينهم منذ سنوات طويلة، وتحولوا إلى عبء على الدولة ومؤسساتها المختلفة.
ولم تعد الكثير من القطاعات الخاصة تؤمن بجدوى الشهادة العلمية والمستوى الدراسي والتقدير الذي تخرّج به الشاب، وكل ما يهمها شخصية الشاب ومهاراته ومعدلات إنجازه، وقدرته على أن يمثل إضافة لجهة العمل، لأنه لن يكون مثاليا بالشهادة فقط.
وتطرح هذه الإشكالية تساؤلات عدة حول أسباب استمرار البطالة بمستويات قياسية بين الشباب مع وجود فرص عمل، هل لأن الجيل الجديد كسول ومرفه ويفتقر إلى الرغبة في البحث عن ذاته ولا يدرك قيمة التطوير من نفسه، أم لاتساع الفجوة بين التعليم واحتياجات سوق العمل؟
ويرى مراقبون أن الإجابة تنقسم إلى مسارات، فالكثير من الشباب لديهم أزمة حقيقية مع الوظيفة بشكل عام، يشتكون البطالة ويكتفون بما حققوه من رحلة تعليمية انتهت بالحصول على شهادة، وهي أزمة ترى الحكومة أن الشباب يتحملون وحدهم مسؤوليتها.
كما أن الحكومة ترفض تحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عندما قررت استمرار تخصصات وكليات جامعية دون أن تكون لها وظيفة في سوق العمل، ومن الطبيعي أن ينضم أغلب الخريجين إلى طوابير البطالة ولا يجدون فرصة جيدة للتوظيف.
ومهما كانت هناك وظائف متاحة في الحكومة أو غيرها لن يكون أمام الذين درسوا تخصصات تقليدية فرصة للالتحاق بها، وإذا بادروا بالتقدم وطوروا أنفسهم لن يكون لهم حظ أيضا، لأنهم وقعوا فريسة السائد ودرسوا تخصصات لا تناسب سوق العمل.
وينتشر تقليد مجتمعي في مصر مفاده أن العائلة تختار لابنها -أو ابنتها- التخصص الدراسي الذي يلتحق به، ما يجعلها تمهد له الطريق للانضمام إلى طابور البطالة، لأنها لم تتركه يدرس التخصص الذي يتناسب مع ميوله وطموحاته التي تواكب الحياة اليوم.
كليات معاصرة منسية
مؤسسات تعليمية في مصر تفتقد إلى وجود مرشد أكاديمي تكون مهمته تعريف الطلاب بالتخصصات العصرية وتحفيزهم على الالتحاق بها لضمان الوظيفة مستقبلا
عندما اتجهت الحكومة إلى إنشاء كليات معاصرة لمواكبة سوق العمل وتقليل الفجوة بين نظم التعليم التقليدية والتخصصات الوظيفية المطلوبة، اكتشفت وجود ندرة في الإقبال عليها وبدت منسية، على الرغم من أنها قد تكون مجانية أو تتطلب مصروفات رمزية، في حين يزيد التهافت على الكليات التقليدية التي أصبحت مصدرا أساسيا للبطالة.
ومع أن ما يسمى بـ”كليات القمة” لم تعد كما كانت من حيث ضمان الوظيفة للشاب وتحقيق حلم المستوى الاجتماعي المتميز له، مازالت تمثل عند أغلب الفئات الشبابية وسيلة للوجاهة باعتبار أنها تجلب الاحترام والتقدير لمن يلتحق بها، ويظهر أمام الجيران والأصدقاء والمعارف بصورة الشخص الذي يستحق الفخر.
ويقود ذلك إلى أن توجّهًا تصبح فيه الشهادة مجرد بداية للحياة الوظيفية للشباب تتطلب المزيد من الجهد والتدريب والتثقيف والاستعداد المهني، لن يحدث بسهولة فأغلبهم غير مقتنع بالفكرة، لغياب الوعي أو تحكم العائلة في اختياراتهم، ما يعني أن بداية مواجهة البطالة تأتي عبر تغيير ثقافة الوظيفة.
وهناك شريحة كبيرة من الشباب المصري يتملكها يأس وإحباط من المستقبل، وتعتقد أنها مهما اجتهدت أو امتلكت مهارات نادرة والتحقت بكلية عصرية قد تتساوى مع آخرين حصلوا على شهادات جامعية وتم توظيفهم بفضل نفوذ عائلاتهم وعلاقاتهم.
المرشد الإلكتروني

قال محب الرافعي وزير التربية والتعليم المصري السابق إن “مشكلة شريحة معتبرة من الشباب تكمن في أنها تعتقد أن ضمان الوظيفة هو الحصول على الشهادة التعليمية، وهذا لم يعد متاحا في الوقت الراهن، ومطلوب تغيير ثقافة المجتمع كله تجاه قيمة الشهادة، والاقتناع بأن التعلم رحلة لا تنتهي حتى بعد التخرج”.
وأضاف لـ”العرب” أن “ما تفعله الحكومة من انتقاء عناصر شبابية في الوظائف، بغض النظر عن طبيعة الدرجة العلمية، مرتبط بالكفاءة، لكن الشهادة التعليمية وحدها لا تُظهر كل الكفاءات، ما يتطلب أن يسعى الشباب المعاصرون إلى التطوير المستمر ليكونوا مستعدين للتعامل مع المهنة الحديثة”.
وأقر الرافعي بأن “بعض المؤسسات التعليمية تتحمل جانبا من المسؤولية لأنها تتباطأ في ضرب الثقافات والموروثات القديمة وما يرتبط بالتخصص الدراسي وقدسية الشهادة، وثمة مؤسسات تعاملت مع عولمة التعليم كأن المجتمع كله قارئ جيد لاحتياجات المستقبل ومطّلع على التغيرات السريعة، وهذا ليس واقعيا”.
الحكومة المصرية تصرّ على خضوع جميع الموظفين الجدد في الجهاز الإداري لاختبارات وتدريب وتأهيل لإعادة بناء المؤسسات الرسمية
وتفتقد مؤسسات تعليمية في مصر إلى وجود ما يعرف بالمرشد الأكاديمي الذي تكون مهمته تعريف الطلاب بالتخصصات العصرية وتحفيزهم على الالتحاق بها لضمان الوظيفة مستقبلا، بحيث يعيد الشاب اكتشاف مهاراته وقدراته وعلى أساسها يختار التخصص، وبعد التخرج يعمل على دعم ذاته وكفاءته.
ولدى المجتمع المصري ثقافة متجذرة بأن التعليم الفني للفاشلين دراسيا لأن طلابه من أصحاب الدرجات الضعيفة، ومع أن الحكومة أدخلت تخصصات معاصرة تتناسب مع الوظائف الحديثة لم يتغير النظر إليه نظرة دونية، ولو تم توظيف طلابه فورا بعد التخرج.
ويعكس ذلك طبيعة التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي سهلت تمرد شريحة من الشباب على كل فرصة عمل مرتبطة بالحرف اليدوية وعمليات البيع والشراء والتسويق والأعمال المكتبية والإنشائية، وإذا استمرت هذه الثقافة فسوف تكون تبعاتها خطيرة على المجتمع.
ويمكن بسهولة ملاحظة شريحة واسعة من شباب مصر تعاني الكسل والتواكل، ولم تتم تربيتها خلال فترة المراهقة على تحمل المسؤوليات ولم يتم تدريبها على العمل منذ الصغر لاكتساب ثقافة الكسب والاجتهاد والمثابرة حتى فقدت الكثير من الأجيال المعاصرة قيمة إثبات الذات واكتفت بالحصول على الشهادة.
عولمـة الوظائف
تقترح بعض الأصوات أن تتدخل الحكومة لتحجيم الالتحاق بالتخصصات التعليمية التي لم تعد سوق العمل في حاجة إليها أو إلغائها، حتى تكون التخصصات المعاصرة البديل الوحيد أمام الراغبين في استكمال مراحل التعليم المختلفة بما يتناسب مع احتياجات الوظائف، مع تغيير جذري في طبيعة الدراسة نفسها.
ويؤكد متابعون لأزمة بطالة الشباب في مصر أن عولمة الوظائف لن تتحقق طالما أن اختيار طبيعة الشهادة التعليمية والتخصص الدراسي في يد المجتمع، ولا بد من وجود إرادة تجبر الناس على إعادة النظر في رؤيتهم للمستقبل وتضع العصرنة أمامهم كخيار وحيد، لتجنب المزيد من طوابير البطالة.
وأكد الباحث والأكاديمي بجامعة حلوان وائل كامل أنه صار حتميا تغيير أولويات الأجيال المعاصرة ونظرتها للتعليم وسوق العمل، وتعريفها بأن الشهادة وحدها لا يمكن أن تصنع المستقبل، ولن يتحقق حلم التوظيف إلا باكتساب مهارات وتنمية قدرات يستطيع من خلالها الخريج أن يفرض نفسه على الوظيفة.
وأوضح أن أكبر مشكلة حاليا تتعلق باستسهال البعض التعلم والالتحاق بأقسام علمية قديمة، لأن النجاح فيها طريقته محفوظة، أما الحديثة فهي غامضة بالنسبة إلى الأهل والشباب وفرص عبورها محفوفة بالمخاطر، وهي مسؤولية تتحملها الحكومة والمؤسسات التعليمية نفسها.
ولفت إلى أن الشباب لن يستوعبوا احتياجات سوق العمل من تلقاء أنفسهم، ويحتاجون إلى مرشدين ووسائل دعم وتوعية، واستمرار الوضع الراهن بالغ الخطورة اقتصاديا ومجتمعيا وحتى سياسيا، لأن الغضب من البطالة سوف يوجّه نحو الحكومة ولن تستطيع حل الأزمة مهما كانت قدراتها.
وتفرض هذه التحديات على الحكومة أن تتعامل مع الشباب باعتبارهم مصدر الطاقة الاجتماعية، ووحدهم القادرون على تغيير الواقع بكل تفاصيله، ومن المهم معالجة التشاؤم الذي يراود مستقبلهم الوظيفي كمدخل للقضاء على الشعور بالإحباط الذي انتاب أغلبهم قبل تحولهم بمرور الوقت إلى قنبلة موقوتة.