الشموع والفوانيس والخيامية فنون ترسخ العادات والتقاليد المصرية القديمة

يشكل حي الدرب الأحمر متحفا مفتوحا لكونه من أقدم مناطق القاهرة التاريخية، حيث يقع في قلب القاهرة الفاطمية، ويضم 512 أثرا إسلاميا تاريخيا، كان لها أثر بالغ على تشكيل هوية المكان على المستوى الإنساني والاقتصادي والفني والجمالي، فبين جنبات وزوايا وأزقة وحواري وشوارع الحي نمت وازدهرت العديد من الحرف التقليدية الخاصة بممارسات الاحتفاليات الشعبية والدينية.
يحتوي حي الدرب الأحمر في القاهرة على 16 شياخة وهي الباطنية، الدرب الأحمر، السروجية، العمري، الغورية ، المغربلين، باب الوزير، تحت الربع، حارة الروم، درب سعادة، درب شعلان، سوق السلاح، المناصرة، الحلمية الجديدة، الدوادية، القريبية، وكل منطقة من هذه المناطق لها حرفتها وصنعتها وتجارتها التي تميزها عن الآخرى. وهي جميعها تلتحم بشارع الأزهر الذي يشكل أبرز مراكز التجارة والأعمال في القاهرة حيث تتركز فيه العديد من الأنشطة التجارية كتجارة الأقمشة والمصوغات والعطارة والمجوهرات والعطور، كما تتركز فيه العديد من الحرف كالنحاسين والدقاقين.
الفنان التشكيلي محمد الدسوقي في كتابه “الشموع والفوانيس والخيامية في حي الدرب الأحمر” يلقي الضوء على صناعة مجموعة من الحرف المأثورة “الشموع والفوانيس والخيامية” راصدا جوانبها المختلفة باعتبارها فنا يجمع بين الجمال والنفع، ويلبي حاجات إنسانية ترتبط بعادات وتقاليد ومعتقدات، وذلك انطلاقا من تصنيعها والكشف عن خصائص القائمين على صناعتها والطرق المتبعة في زخرفتها وتجميلها ودراسة أساليب تسويقها. بالإضافة إلى التعرف على الدور الذي تؤديه هذه المنتجات الحرفيه في المناسبات الاحتفالية المختلفة. والتي تتطلب وجود هذه الحرف التقليدية والكشف عن الحكمة الشعبية في اختيار منتج دون آخر، والارتباط به دون غيره والحفاظ عليه، ليضفي وجودها في مناسبات بعينها قدرا كبيرا من استكمال الجوانب الاحتفالية.
الشموع والفوانيس
في منطقة "الدرب الأحمر" في القاهرة القديمة تتعانق المنتجات الحرفية مع عادات المصريين ومعتقداتهم منذ القدم إلى اليوم
يبدأ الدسوقي كتابه بالشموع مؤكدا أن للشموع أهمية كبرى من حيث مساهمتها في الإضاءة ومشاركتها في الكثير من طقوس المظاهر الاحتفالية وغيرها. وقد ذكرت الشموع وأسواق الشماعين في كتب الرحالة والمؤرخين مثل ابن بطوطة والجبرتي وغيرهما. وأن سبيل وكتاب نفيسة البيضا بجوار بوابة المتولي بالدرب الأحمر يعرف بين أهل المنطقة المحيطة باسم “وكالة الشمع”، وقد أخذ هذا الاسم من تردد التجار عليه وإطلاقهم هذا الاسم عند شرائهم الشمع من الورش الموجودة بالوكالة.
ويذكر أن وكالة نفيسة البيضا أطلق عليها وكالة الشمع بعد أن جاءها الشماعون وفرضوا صناعتهم بها وجاء لهم التجار من كل مكان لشراء الشمع. والآن يتولى أبناء جابر الشماع عملية تصنيع الشموع في الوكالة، كما توجد بالمنطقة ستة ورش متفرقة لتصنيع الشموع وتزيينها أشهرها ورشة أولاد الرافعي، ومنها ما يقع في حارة الروم وحارة الكحكيين وكلها مخصصة لبيع الشمع الخام والمصنع والمزين والملون.
ويضيف الدسوقي “يختلف إنتاج ورش الشمع البلدي فيما يقدمونه من منتج الشموع، كما تختلف هذه الشموع في الاستخدام حسب أطوالها وأحجامها وأوزانها، كما تختلف أيضا في طريقة التقديم التي تقدم بها إلى المستهلك سواء بتزيينها باللولي والشرائط والورود لتقدم في حفلات الزواج أو بتلوين عجينتها بألوان كالأحمر والأصفر والبرتقالي والأزرق لتقديمها للأطفال في احتفالية السبوع أو بتلوينها من الخارج بألوان السبرتو الحمراء والخضراء لاستخدامها في الإضاءة، وكل هذه الشموع لها أحجام وأطوال وأوزان وألوان مختلفة، وكل شمعة منها لها وظيفة تؤديها تكون الدافع وراء تصنيعها وشرائها بعد ذلك”.
ويلفت إلى أن الشموع ارتبطت بالكثير من الممارسات الاحتفالية الشعبية الخاصة بالمسلمين والمسيحيين على السواء في منطقة البحث “الدرب الأحمر”، وتعانقت مع عاداتهم ومعتقداتهم منذ الميلاد إلى الزواج والوفاة، فكانت الشموع تمثل رحلة الإنسان منذ الميلاد حتى الوفاة والتلاشي والعدم وهو ما ربط الشموع وجدانيا وبين حياة الأولياء والقديسين وجعلها وسيلة تقربهم وتقرب أمنياتهم وأحلامهم من أن تصبح حقيقة على يد هؤلاء الأولياء والقديسين الذين يصبحون وسطاء يحملون الأماني والأمنيات إلى السماء كي تتحقق، تصاحبها توسلات وأدعية البسطاء التي طالما تنتهي بإشعال الشموع ووهبها إلى روح القديس أو الولي الذي تتم من خلاله الوساطة.
بعد الشموع يأتي دور الفوانيس حيث يتناول الدسوقي نشأتها وأماكن تصنيعها وخاماتها ومراحل تصنيعها وعوامل تطورها، مركزا على عمل الورش التي تقوم بذلك في حي الدرب الأحمر ويعرض للخامات والأدوات المستخدمة ومراحل التصنيع حتى يكتمل شكل الفانوس كمنتج يرتبط بشهر رمضان.
يوضح “إن منطقة الدرب الأحمر تعد مركزا مهما لتجارة الفوانيس خاصة في شارع تحت الربع التجاري الذي يوجد به أقدم صناع الفوانيس وتجارها وهم محمد السيد، الحاج فهمي أبوالعدب، عم شتا وابنه حسين شتا. وكانت الصناعة والتجارة محدودة ولكن بدأت في الازدهار منذ الثمانينات كما بدأت في الاتساع ودخول أناس عديدين سواء للاتجار أو للتصنيع. أما الورش الموجودة بمنطقة تحت الربع فهي ورش صغيرة مرتبطة بموسم رمضان فقط حيث يتم ترميم وتجميع الفوانيس المكسورة بها وإصلاحها، ولكنها رغم ذلك فهي تعد أماكن تجارية من الطراز الأول يعتمد التجار بها على مجموعة من الورش من خارج المنطقة ومن المناطق المحيطة، التي تنفذ طلبياتهم من فانوس رمضان بجميع أشكاله وأحجامه، وهذه الورش موجودة بالسيدة زينب والبساتين والوراق وأماكن أخرى في الهرم وفيصل والعمرانية والمنيا ودسوق وأغلب محافظات مصر يعملون لحساب هؤلاء التجار الموجودين بمنطقة تحت الربع والتجار الموجودين في القاهرة عامة”.
يقول الدسوقي “إن صناع الفانوس تعودوا كل عام على تلبية احتياجات السوق من الفوانيس حسب المطلوب مع إضافة العديد من الموديلات الحديثة التي تستحدث سنويا لإنعاش السوق بأشكال جديدة بعضها مستلهم من أشكال تقليدية مثل فانوس فاروق بأنواعه وأحجامه المختلفة، وفوانيس تاج الملك وأبونجمة وأبوأولاد، والمقرنص وغيرها، وبعضها جديد مثل فانوس الكورة وفانوس المسجد الأقصى وغيرها. ولكل فانوس من هذه الفوانيس مقتن لها تعوّد على شرائها كل عام، وبذكاء ومهارة الصانع المصري استطاع التقاط الأنواع الأخرى التي يقبل عليها المقتنون لهذه الفوانيس البلدي من حيث أحجامها وأشكالها وزخارفها وتعوّدوا على شرائها فبعضها مأخوذة عن أشكال قديمة وآخرى مبتكرة”.
وقد حاول الحرفيون قدر المستطاع إرضاء كل الأذواق حيث يقبل الزبون المصري على الفوانيس ذات الرسوم والزخارف والكتابات القرئية المختلفة. أم الزبون العربي فإنه يقبل على الفوانيس التي تحمل آيات قرآنية ولا يقبل على الفوانيس التي تحمل رسوما لأشخاص، أما الزبون الأجنبي فإنه يقبل على شراء الفوانيس ذات الرسوم الفرعونية كما يفضل الفوانيس السادة الخالية من أي رسوم لاستخدامها كوحدة إضاءة طوال العام، وهكذا فلكل زبون عاداته في اقتناء فانوسه كل عام.
فن الخيامية

أما ما يتعلق بفن الخيامية فتتبع الدسوقي أيضا تاريخه والخامات التي تستخدم في هذه الحرفة وطرق تصنيعها وعلاقة الخيامية بعادات ومعتقدات المصريين، وذلك دون أن يغفل الحرف الأخرى المرتبطة بها والمكملة لها، وتسويق المنتج عامة والمشكلات التي تتعرض لها وأصحابها. كما قام بتحليل جمالياتها من حيث الألوان المستخدمة والزخارف النباتية والهندسية وغيرها وقدم كشفا تحليليا لهذه الوحدات الزخرفية والمصطلحات المرتبطة بها.
يقول الدسوقي “هناك الكثير من العادات المرتبطة بالخيامية نظرا إلى ارتباطها بالكثير من مناسبات الناس واحتفالاتهم سواء في الأفراح أو الأتراح أو التجمعات الكبيرة أو الأعياد القومية والدينية وأحيانا في أعياد الميلاد والعقيقة وغيرها من المناسبات. كما ذكروا لنا أن هناك ارتباطا وثيقا بين الكثير من المناسبات التي تمر في حياتنا اليومية وبين الخيامية، فالكثير منا مازال يحتاج للأصونة ـ السرادقات ـ عند حدوث مناسبة مفرحة أو محزنة له كالأفراح والمآتم كما نستخدم الكوزلك الصغير في الأخمسة الخاصة بالمأتم لأن الصوان ـ السرادق ـ ينصب غالبا في أول يوم يتوفى فيه الميت ونتولى نصب الكوزلك الصغير بعد الأخمسة التي تلي يوم الوفاة حتى يوم الأربعين علاوة على ذلك يستخدم الكوزلك كثيرا في الأفراح التي تقام فوق الأسطح وفي حفلات أعياد الميلاد والعقيقة وغيرها من المناسبات لضيق مساحات المنازل التي تستوعب أعدادا كبيرة من المجاملين”.
كما تستخدم الخيامية في مناسبات مختلفة مثل الانتخابات التي تقام لها سرادقات ضخمة يخطب بها المرشحون ويعلنون فيها عن أنفسهم وعن برامجهم الانتخابية، كما يتم استخدامها وقت المواسم والاحتفالات مثل شم النسيم والمولد النبي وقدوم شهر رمضان وغيرها من المناسبات حيث تزدحم المحال التجارية بالبضائع وتقام موائد الرحمن ويحلو السهر ويصعب تخزين البضاعة داخل المحلات فنبقى عليها في الخارج ونحيطها بالخيامية.
وحول المعتقدات بشأن الألوان في الخيامية يشير إلى أن “القماش الملون هو جزء هام من أجزاء تصنيع الخيامية، ولا تختلف ألوان التروك من حيث ألوانها وزخارفها سواء الخاصة بالأفراح أو الخاصة بالمآتم بعضها عن بعض، ويغلب عليها ألوان الأبيض والبرتقالي والأزرق والأصفر أو حسب طلب الزبون، وحاليا استحدثوا تروكا سادة لها لون واحد فقط هو اللون الأزرق، كما استحدثوا تروكا منفذا عليها بعض الرسوم بطريقة الخيامية تصور بعض الشيوخ المحبوبين مثل الشيخ متولي الشعراوي أو رسوم للكعبة والحرم النبوي أو بيت المقدس، كما استحدثوا تروكا خاصة بالمسيحيين عليها رسوم لماري جرجس والسيدة العذراء منفذة بطريقة الخيامية سواء الملونة أو الأبيض والأسود”.
ويتابع الدسوقي “أما ارتباط ألوان الخيامية ببعض المعتقدات فلا نجده إلا في أضرحة أولياء الله الصالحين، حيث إن كسوة الضريح تأتي منفذة بطريقة الخيامية ولا بد أن تكون خضراء قاتمة اللون، مكتوبا عليها بالأبيض لأن اللون الأخضر هو لون من ألوان الجنة، كما أن اللون الأخضر مشهور بأنه اللون الذي يميز آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الأخضر الفاتح، وكما يذكرون أنهم نفذوا الكثير من كسوات أضرحة أولياء الله والكثير من الأعلام واللافتات التي تمثل الطرق الصوفية على اختلاف طرقها”.
ويتابع “أما ألوان الأعلام المسيحية فلا تختلف عن الأعلام الإسلامية وشاراتها وبيارقها، فالمسيحيون يطلبون أعلاما ذات لون أحمر مكتوبا عليها بالأسود أو أعلاما بيضاء مرسوما عليها الصليب بالأسود وتكون مشغولة من الناحيتين أيضا، وعليها برواز ذهبي من الخارج، وتستخدم هذه الأعلام في جميع موالدهم المسيحية كما يرتب عند إقامة الزار تزيين الغرفة المقام فيها الزار بالخيامية من خلال الأعلام البيضاء المنفذة بطريقة الخيامية والمكتوب عليها بالأخضر، وهذه الأعلام البيضاء خاصة بسيدي أبوالغيط وطريقته تستخدم اللون الأبيض في أعلامها وشاراتها ولافتاتها”.