الشعر يحمي القضية الفلسطينية ويبرز ديمومتها

"أن تكون فلسطينيا".. أنطولوجيا تؤكد أن روح الشعر الفلسطيني تواصل التجديد.
السبت 2025/05/03
الشاعران عبداللطيف اللَّعْبِي وياسين عدنان خلال تقديم الكتاب

يواصل جيل جديد من الشعراء الفلسطينين التزامهم بقضية ممتدة في الزمان والمكان، دون انتماءات لجماعات بعينها، بل هم ينتمون إلى فلسطين التي تحولت إلى عنوان لأشهر القصائد، مرسخين حضور هذه التجربة الشعرية شديدة الخصوصية ضمن حركة الشعر العربي، ولافتين انتباه شعراء عرب آخرين لتناولهم بالدراسة والتحليل.

خصوصية وفرادة في الرؤية والتشكيل في كتاب “أن تكون فلسطينيا.. أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن” والذي ضم مختارات من أعمال 26 شاعرا وشاعرة من فلسطين لأجيال ما بعد رواد القصيدة الفلسطينية الحديثة، مثل فدوى طوقان وسميح القاسم وعزالدين مناصرة ومعين بسيسو ومريد البرغوثي ومحمود درويش وغيرهم.

يكشف الكتاب أن روح الشعر الفلسطيني تواصل التجديد والقدرة على ترسيخ حضور التجربة الشعرية الفلسطينية بكل ثقلها في المشهد العربي، وأن هناك تعددا في الأصوات بين أجيال ربما ليست مشهورة بدرجة كافية حققت جماليات شكلت تجاوزا وثراء فنيا وجرأة في الرؤية الإنسانية في مواجهة الصمت الذي يلفّ وحشية ما يتعرض له الشعب الفلسطيني.

الأنطولوجيا التي أنجزها الشاعران المغربيان عبداللطيف اللَّعْبِي وياسين عدنان، وصدرت عن منشورات المتوسط، ويفتتحها اللَّعْبِي، ضمت من الشعراء والشاعرات: رجاء غانم، أشرف الزغل، أنس العيلة، جمانة مصطفى، نجوان درويش، مازن معروف، هلا الشروف، غياث المدهون، مروان محول، خالد سليمان الناصري، أشرف فياض، مايا أبوالحيات، كوليت أبوحسين، رائد وحش، هند جودة، طارق حمدان، أسماء عزايزة، داليا طه، نداء عوينة، أمينة أبوصفط، هشام أبوعساكر، حسن مخلوف، رزان بنورة، إيناس سلطان، يحيي عاشور، رولا سرحان.

محمود درويش كان حامل مشعل الجيل الثاني من الشعراء، ولو أن شجرته السامقة لا تخفى الأصوات القوية
محمود درويش كان حامل مشعل الجيل الثاني من الشعراء، ولو أن شجرته السامقة لا تخفى الأصوات القوية

ويؤكد اللعبي أنه “يكفي أن يُنْطَقَ اسم فلسطين (التاريخ، الأرض، البلد، الشَّعْب، عدالة القضية، الكفاح من أجل الحياة، والآن الكفاح من أجل البقاء) ليحضر الشِّعْر كضيفٍ من تِلْقَاء نفسِه. ونادرا ما نَجِدُ في تاريخ الأدب اسم بَلَدٍ، والأمر يتعلَّق هنا بفلسطين تحديداً، يستحيل في حَدِّ ذاته شِعْرِيَّةً. ويجب الإقرار هنا بأنّ هذه المكانة تعود في جزء كبير منها لشعراء فلسطين: أولا الرواد الذين طفقوا في بداية القرن الماضي يدرجون في ذاكرة شعوب الشرق الأدنى ذاكرة خاصة قيد التكوين، ذاكرة السكان الفلسطينيين الرازحين تحت نير الهيمنة البريطانية. ثانيا جيل الستينات والسبعينات الذي كان مهندس النشأة بوضعه العناصر المكونة للهوية الفلسطينية الوطنية والثقافية. وقد كان محمود درويش حامل مشعل هذا الجيل، ولو أن شجرته السامقة لا يمكن أن تخفي غابة من الأصوات القوية والأصلية مثل معين بسيسو، توفيق زياد، فدوى طوقان، سميح القاسم، عزالدين المناصرة، محمد القيسي، أحمد دحبور، مريد البرغوثي، وليد خزندار، خيري منصور، وآخرين.”

ويضيف “وبعد ذلك تعاقبت الأجيال لتغني هذه الشعرية وتحتك بالنزعات الجديدة للشعر المعاصر، وتحمي القضية الفلسطينية وتبرز ديمومتها، هذه الشوكة التي تسعى قوى الموت إلى نزعها من الضمير العام. إنها معركة داود ضد جالوت على نحو معكوس! هذا الأخير، خلافا للأسطورة، يعرف أكثر فأكثر كيف يناور، ويغذي السراب، ويربح المسافات، حقيقة ومجازا، لأجل حشر الخصم في طريق مسدود وإغلاقه عليه بعد تجريده من مقلاعه. ويبدو أنها إستراتيجية مربحة إذا اعتبرنا الصمت الذي يلف لسنوات مصير الشعب الفلسطيني؟ هذا ما يبرز هذا العمل ويضفي عليه طابع الاستعجال. فالأمر يتعلق بالضبط بوضع حد لهذا الصمت والتنديد عاليا بإنكار الحق وبتنظيم فقدان الذاكرة، وكذا بمنح الصوت من جديد للواتي وللذين يعيشون اليوم في ظلمة الطريق المسدود، وهم غير مرئيين تقريبا، ولا يسمعون على أيّ حال. وهنا يقرؤون ويكتبون ويحبون ويحلمون ويسافرون بعيدا ويفكرون بحرية.”

ويلفت إلى أنه “بالإضافة إلى الأسباب المباشرة والملحة هناك أسباب أخرى حفزت بالمقدار عينه: أولا ضمان مناصفة دقيقة بين النساء والرجال عند اختيار الشعراء. ثانيا إقامة الدليل من جديد على أنه في اللحظات الأشد صعوبة في تاريخ شعب ما يكون الشعراء في الموعد ويقدمون أحسن ما لديهم.”

ويوضح أن “الحقيقة تلزمنا أن نقول بأنه في اللحظة التي هممنا فيها بالقيام بهذا العمل كنا بعيدين عن تخيل ثراء وفرادة المنجم الشعري الذي كنا مقبلين على استكناهه، وكلما توغلنا داخل المنجم أثارنا تعدد الأصوات المذهل الذي ينبعث منه. ثم لمَ لا نقر على التو ودون إرادة النيل من السادة الذكور، أن الأصوات النسائية هي التي كانت تقود الأوركسترا وتقلب الطاولة بكسر أكثر التابوهات انغراسا في الذهنية العربية الإسلامية المحافظة، وهي تتحدث بصراحة عن الجسد والرغبة وأنواع الحرمان، وبإعطائها رؤيتها، غير المسبوقة طبعا، عن الجنس وأحاسيس الحب؟ وكأنما قبل الرجال بهذه الجرأة، إن لم يطالبوا بالمزيد منها! ذاك أنهم يبحثون بدورهم عن ذواتهم، بعد أن فرّوا من هذه الحروب الداخلية، ليتمكنوا من مواجهة ضروب الهمجية التي يمارسها عليهم الاحتلال يوميا. وبذلك يلتقي الجميع في هذه الجبهة، لكن، على نحو مختلف عن سابقيهم الذين كانوا ذات زمن معشوقيهم.”

روح الشعر الفلسطيني تواصل التجديد والقدرة على ترسيخ حضور التجربة الشعرية الفلسطينية بكل ثقلها في المشهد العربي
روح الشعر الفلسطيني تواصل التجديد والقدرة على ترسيخ حضور التجربة الشعرية الفلسطينية بكل ثقلها في المشهد العربي

ويبرر اللعبي كل ذلك “بأن القضية الفلسطينية، التي لاقت وقتذاك تضامنا واسعا عبر العالم، أضحت اليوم مغيبة بذكاء الجالوت المحلي، وتخلصت منها أنظمة الأشقاء الزائفين، وتخلى عنها إلى حد كبير ما كان يسمّى آنذاك الشارع العربي. فيما تغيرت المعطيات المجتمعية والسياسية على أرض الواقع تغيرا جذريا. وقيام دولة فلسطينية لم يعد ينتمي لدائرة اليوتوبيا الجميلة، وإنما أصبح بكل بساطة مستحيلا. هكذا بدأ الفلسطينيون يتحولون، حسب العبارة المتداولة، إلى شعب بلا أرض على غرار الأكراد والأويغور وشعوب أخرى حكم عليها بالكفاح المتواصل للحفاظ على هويتها وضمان بقائها.”

ويشير إلى الشعراء الذين ضمتهم الأنطولوجيا “منتشرون في بقاع العالم كله أو محشورون داخل سجون بسماء مفتوحة أو مغلقة (غزة، الضفة، القدس الشرقية)، أو يعانون داخل إسرائيل من تمييز عنصري (أبارتايد) لا يعلن عن نفسه أو مجمّعون منذ عقود في مخيمات خصتهم بها مختلف بلدان الجوار (الأردن، لبنان، سوريا)، أو منفيون في بلدان الخليج دون أن يتمتعوا بأي من حقوق المواطنة. وبالنظر إلى هذا الواقع المعيش كان من الممكن أن نتوقع شعرا متشظيا، غير متجذر في واقع محدد، دون وشائج ملموسة تربطه بأرض ومجتمع وثقافة واستمرارية تاريخية.”

هذه كلها يراها اللعبي “نواقص تضع في خانة الإشكاليات كلا من شعور الانتماء والاعتراف والمطالبة بهوية خاصة. والحال أن الأمر غير ذلك تماما. تلك إذن هي شبه المعجزة التي تفوّق هؤلاء الشعراء والشاعرات في تحقيقها. فأينما حطوا الرحال، سواء أكانوا أحرارا أم يخضعون للقيود المفروضة عليهم أو داخل السجن، فهم يمنحون في كتاباتهم الإحساس القوي بالعيش داخل كيان لم يعودوا في حاجة حتى لتسميته: فردوس مفقود، بلد من وحي الاستيهام، أرض عذاب، أرض حرب مسترسلة، مقبرة شاسعة، قدس الأقداس، عطور، ألوان، جمال الحجارة والأشجار وإبداعات الإنسان.. التي لا مثيل لها. وهي في لغتنا: فلسطين! حيث “الأرض بتتكلم عربي” كما تقول الأغنية. وإذا بالشاعرات والشعراء يجعلونها، بفعل سلطة فنهم، حية ملموسة، ويبرزون تفاصيل جسدها وروحها وديدنها اليومي، العادي منه والضارب في الوحشية، وينتزعونها من بين مخالب الأساطير التي تقيدها، ليجعلوها في متناول أفهامنا وحش العدالة لدينا، ثم قدرتنا على الرأفة ومتطلبات وعينا لا تقبل التجزئة.”

ويشير إلى أن “الخاصية المذهلة الأخرى التي ينفرد بها المنجز الشعري الفلسطيني هي عقلية مشتركة لدى أغلبية المتخلين الذين تم تقديمهم هنا. فلا أحد منهم يتكلم باسم الكيان المشار إليه أعلاه، أو باسم الجماعة التي تعيش فيه وتعلن انتماءها إليه. لن نستمع إلا إلى أفراد يسردون معيشهم الخاص، وما يرونه ويجسون نبضه في واقعهم اليومي، وفي أحلام يقظتهم وكوابيسهم (وهذه الأخيرة لا تعد ولا تحصى!). ومن هنا فإن الخاص الذي يركزون عليه انتباههم الفطن ويتناولونه غالبا بنوع من السخرية السوداء جدا، مهجنة بسخرية بريطانية، أو ‘بريتيش‘ (وهذا تعريف يمكن إسباغه على السخرية الفلسطينية)، هذا الخاص يكتسب طبيعيا بعدا كونيا.”

ويوضح أنه “لم يسبق أن كان ثمة في المجال الثقافي الذي ينتمون إليه شعر يندرج، بمثل هذه السمة الطبيعية، في ما ينجز من أعمال على درجات الملاءمة والصدامية في الشعر المعاصر. ولهذا وجدنا في ترجمة هذا الشعر يسرا كما وجدنا فيه لذة والآن لندعه يفتح أعيننا وقلوبنا من جديد، ويعيد إحياء حسّنا التشاركي وإجمالا أن يربطنا بالقيم النفسية لإنسانيتنا.”

نماذج:

نجوان درويش

قصيدة في المستعمرة

كيف ننفق أعمارنا في المستعمرة؟

كل ما ألمحه حولي “بلوكات” من الأسمنت

وغربان عطشانة

الحرية تمثال طيني

يتشقق تحت شمس الساحل

والأغاني لا تعرف

أفضل شيء ألا تعرف

المنتظرة في الرواق

أن صغيرها ميت

في غرفة العناية الفائقة

ماذا نفعل في بلادنا

التي أصبحت مستعمرة؟

….

كوليت أبو حسين

قصيدة أصدقائي الشعراء

أنتم ضروريون

من أجل اكتمال قصيدتي

نحن سلالة القاتل

عمومة القتيل

ورثة الذئب

وتلامذة الغربان

في الأرض الخراب

نحن الناجون من فخ الفضيلة

وكذبة الخير

الساقطون من جنان الرب

وحملة ألوية الشر في جحيمه

لذا:

نشحذ خناجرنا

وننام

نحلم بأعناق

الأخوة الطرية.

……

مايا أبو الحيات

قصيدة طريق للضياع

قد فكرت بالهرب

مثلكم جميعا

لكنني أخاف الطيران

أزمة الجسور

حوادث السيارات

وتعلم اللغة

أخطط لهرب أبسط يشبه الرحيل

ألم أطفالي في حقيبة

وأحملهم في أيّ اتجاه أذهب

لا غاية في هذه المدينة

لا صحراء أيضا

هل تعرفون طريقا للضياع

لا ينتهي بمستوطنة؟!

لقد فكرت بمصادقة الحيوانات

حيوانات لطيفة تعوض أطفالي

عن ألعابهم الإلكترونية.

قبل أن يضحي أحد بأحد

أريد مكانا للضياع

أطفالي سيكبرون

وستزداد الأسئلة

أنا لا أكذب

لكن المعلمات يحرفن

أنا لا أحقد

لكن الجيران يسألون

أنا لا ألوم

لكن الأعداء يقتلون

أطفالي يكبرون

ولم يفكر أحد بعد

بإذاعة نشرة الأخبار الأخيرة

إقفال القنوات الدينية

تشميع المدارس

وقف التعذيب

أنا لا أجرؤ على الكلام

كلمت تكلمت عن شيء حدث

وأنا لا أتكلم

أنا أريد أن أضيع.

 

13