الشعر والهرطقة

لم ينج شاعر من هذا السؤال: “ما هو الشعر؟”، وسيبقى الشعراء يتساءلون والنقاد كذلك ومعهم القراء أيضًا، لكن جميع الأجوبة هي مجرد إشارات على طريق أطول من أعمارنا بلا شك، سنبقى نتساءل وندوّن، فإذا بنا ندوّن حيوات الآخرين ونستعير بدرجات متفاوتة حناجرهم. قلة منّا مَن يُدَوّن حياته بحنجرة صافية، وعليه فإن قولي في إحدى قصائدي (لا أحد يُغَرّدُ في حنجرتي) هو قول نابع من شعوري بخطورة الشعر، ودقته وشفافيته وأهميته بكل تأكيد.
من هذا المنطلق يحثنا الشعر على الابتكار والتجديد، ومجموع هذه الابتكارات حملت الشعر إلى مديّات أوسع، صرنا نلحظ سرعتها وقوتها من خلال ما يطلق عليه بالقطيعة، وإن كانت هذه القطيعة نسبية، وربما يمكن- بنوع من المجازفة- القول إنها قطيعة وهمية، أو نسبية، لأنه ما كان لهذه القطيعة أن تحدث لولا تراكم الابتكارات والتجديد والتطور الذي أصرّ عليه هذا العدد الكبير من الشعراء. هنا لا نتحدث عن الشاعر الفرد أي الذي يقوم بإخراج الشعر من التقليدية والقوالب المكررة إلى ما هو خارق للذائقة، ومنه تبدأ ذائقة جديدة بالتشكل والهيمنة على اللاوعي الجمعي، ومن ثم يأتي بعد فترة -قد تطول كثيرًا- شاعرٌ فرد آخر ليحطم ما أنجزه سلفه. هذا الشاعر نادرًا ما يتواجد خلال عقود، ولكن حديثي عن منجز الجميع، وسعي الأغلبية ممن أخلصوا للشعر، حيث جعلونا لا نطيق مَن يكتب جملاً نمطية. وكان لثقافة بعض أفضل الشعراء بالسرد والتشكيل والسينما والمسرح أثرها في الاستفادة من هذه الفنون ليلجَ الشعر عوالم جديدة بعضها كان غائباً، تماما، وبعضها الآخر نادرًا ما لامس هذه الفنون.
بهذا المعنى أفهم الشعر، والإيمان أنه كلما أوغل في هرطقته واستحق الرجم كان أكثر إخلاصًا لجوهره، فَلِلشعر عوالمه وآلهته ومَلَكوته، وهذه لا تخضع لمنطق الأشياء الشائعة، أو لمنطق العقائد والعلوم، لأنه سيندرج ضمن الرياضيات، وهو النافر من علاقاتها، رغم ما يشاع من أن غالبية الشعراء قدراتهم جيدة في الرياضيات. الهرطقة هنا شعرية لغوية، فهي منافية للسائد من القول الشعري، مما يخرجها من دائرة المقدس والمدنس وإشكالياته، وعليه نجد الفقهاء تحدثوا عن “شطحات المتصوفة” فيما يخص نصوص التصوف والعرفان وما توحي لمن لم يتعمق فيها بالتجديف وخرق المقدس.
|
نعم الشعر هرطقة، كما أوضحت أعلاه، أي لا يستعير الشاعر، حناجر شعراء سبقوه إبداعًا، بل يُنَقّي حنجرته ليكون تغريدها إضافة جديدة وليست استنساخًا تراكميًّا، ويفضل أن تكون نشازًا يخرّب اللحن المحفوظ في النشيد الجماعي والمستساغ في الذاكرة الجمعية، وبالذات ما أصبح شفاهيًّا؛ أي أن أنساقه تتردد على الألسنة بصورة مكررة وضعته في صف الأمثال والجمل الشفاهية التي توارثناها، فهذا النشاز سيمنح الشعر مديّات واسعة، ويحفّز المبتلين بالتجديد والخلق والإبداع أن يضع كل واحد منهم لبنة أساسية جديدة ليندفع الشعر إلى الأمام، وكلما ظهر مَن يخرب ذائقتنا بوعي عميق وبصيرة واقتدار، وينشد التجديد الحقيقي لا الشكلي المبني على تلاعب ساذج بالمفردات أو استعمال مفردات أجنبية، وتكرار أسماء أعلام ومدن مشهورة، خصوصًا ما يتعلق بالإغريق والرومان وأوروبا عموماً، وما إلى ذلك من تشويه للتجديد الحقيقي، المبني على موهبة ناضجة، وقراءات عميقة، وَهَمّ يوميّ، أشبه بالوباء يصاب به الشاعر المجدد.
القصيدة الحديثة يجب أن تقرأ على ضوء المنجزات التي تحققت للشعر، حيث الشاعر يزاوج الفنون الأخرى مع تجربته الخاصة، وثقافته الشعرية والأدبية والفكرية عمومًا، فليس بمقدور من يقرأ قصيدة حديثة أو ما نطلق عليها خطأ بقصيدة النثر-وهي القصيدة الحرة كما اعتبرها عبد الواحد لؤلؤة في مقالة مبكرة له، ووافقه لاحقا آخرون- وهو جاهل بالفنون الأخرى وبالفلسفة والأساطير والتاريخ وعلم الإناسة، وهي اهتمامات طالما راودت حيزًا واسعًا من قراءات شعراء النص الجديد وشغلتهم؛ أي القصيدة الحرة، والتي بلا شكّ هي غير قصيدة التفعيلة. وبما أن الشعر مثله مثل بقية الفنون نخبويّ، رغم الفارق العددي بين مريديه ومتابعيه وبين مريدي ومتابعي غيره من الفنون، ولكنه أكبر من مقولة “موت الشعر” التي أراها جملة غير صائبة، أطلقت عشوائيًّا، وفي أحسن الحالات تعبر عن خوفٍ مبالغٍ فيه.
شاعر من العراق مقيم في الإكوادور