الشعر والفن التشكيلي يتكاملان ويتناقضان في محاورات الصورة والنص

بقدر ما يحمل الشعر الأسئلة يحمل الفن التشكيلي الأجوبة.
الخميس 2024/08/08
تراكمات كثيفة وتشكيل موهم باللغة

بين الفن التشكيلي والشعر علاقة متينة، ولكنها ليست ثابتة أو خطية، ولا هي علاقة تفسيرية كما يفهمها البعض، إنها متحركة وزادت قوتها ووهجها وحركيتها مع توسع البعد التجريبي وخاصة المفاهيمي، ما سمح بتقاطعات وتنافرات عديدة بين الشعر والتشكيل، تقوم على الفكرة والروح والفلسفة وحتى اللعب أيضا.

من خلال الإقامة في خيال الصورة يطرح الشعر منافذ الإبداع ويتجلى في التوظيف اللامنتهي بين الوجود والمنشود في التغني بالإحساس الكامن في العمق العميق للإنسان والإنسانية، لذلك حمل الشعر الأسطورة وانحنى مع التاريخ ورسّخ الوجوه المتعددة للمعيش والتخيل المكتمل في تفاصيل البقاء وكانت علاقته بين الفنون أليفة، بل ومشتهاة في التلامس الحر بين المحسوس والمؤدى في المسرح والسينما وفي الفن التشكيلي.

إن العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي لا تتعدى جوانب المقارنة لأنها تتعمق أكثر في درجات الوعي وبالتالي الفهم الذي جادل ما بعد الصورتين، كأن خلق جدليات ومحاورات أخرى فتحت منافذ الصورة الماورائية والمعنى الأبعد، إذا ما اعتبرنا أن الشاعر بدرجة أولى يصوّر كلماته والفنان ينظم صوره.

هنا نقع بين تناقضين شبيهين لا يختلفان عند نقطة التعبير ولكن يختلفان عند التنفيذ، فتكون لما بين اللغتين انعكاسات بصرية وهذه هي المحاورات التي أشار إليها الفنان التعبيري الألماني أنسالم كيفير في أعماله التي تحاور فيها مع شعر باول تسيلان وما عبّر نحوه من صور وماورائيات فتحت فكرة التجريب، التي لم يكن بدوره سباقا فيها ولكنه حاول أن يراها من زوايا أخرى تجلّت في فكرة الانعزال بين معنى التجريب الحسي بالكلمات والمجازات ومعنى النفاذ إلى مادياتها الملموسة، بين الهدم والبناء، وبين الحياة والموت، في كل مساحة تعبيرية شعرية وتشكيلية نحتها وعبّر فيها وحفرها.

وقد أثارت هذه التجربة البصرية التي عرضها كيفير في فرنسا الكثير من التساؤلات والعديد من التحولات بين مدى تعاون الفنون وخاصة الشعر ودرجات الفهم والتواصل بينها، من خلال الأخذ والعطاء والتحاور والتجادل في صورة اللغة وتصويرها مجدّدا.

بصريات شعرية

العلاقة المتشابكة بين الشعر والفن التشكيلي تعتبر كتابة ضد الكتابة وقد تطورت خاصة مع توسع التجريب المفاهيمي
العلاقة المتشابكة بين الشعر والفن التشكيلي تعتبر كتابة ضد الكتابة وقد تطورت خاصة مع توسع التجريب المفاهيمي

تجلّت كثيرا هذه الجدليات التي استدرجت الفنانين إلى عوالم مختلفة من البحث عن المفاهيم بالنبش في الأسباب والحالات، كتلك التي قادت إلى تفكيك صور بودلير الشعرية وباول تسيلان ودانتي وأراغون لترميم تلك الفجوة الطافحة بالألوان، والتجريب الذي فكّك الصور بين العالمين، وسعي كل منهما إلى التعجيز الإبداعي في تحويل الإحساس من العدم إلى الحضور المبني على التكامل المرئي الملموس والمحسوس والمدهش في عمق تجادله مع الذات الإنسانية.

فتجربة أنسالم كيفير التي اشتغل عليها منذ سنتين، ميّزت عالم العزلة الإجباري التي دخل فيها العالم ومدّته برؤى بحث خلالها عن طرق التعبير الإبداعي بين المعاناة الوجودية والانعتاق الطبيعي من خلال التعمق في النصوص الشعرية، لا كإدراك للصور فيها، بل كتعبير يحاورها أو يحاول الإجابة عنها، وهو ما قاده نحو  شعر الروماني باول تسيلان، الشاعر الذي ميّزته اللغة وقتلته في آن، حيث حمله قلمه نحو الكتابة باللغة الألمانية، فخاض في تفاصيل شعره معاناته القاتمة، فكان يجادل الجلاد والقاتل ويستحضر مجاز الموت.

ذلك المجال مشى عبر حروفه كيفير فبحث في زواياه المظلمة عن مجاز الصورة وانعكاسات المخيال البصري في تلونات قاتمة ومشرقة، تجوّل نحوها وحاورها حرقها ورممها، سافر بين دروبها بسراج الكلمة وتشكل المجاز وحفر تناقضاته الحسية المتداخلة بين الحق والعدوان في أن يكون الشاعر مظلوما وظالما حاكما وجلادا معتدى عليه ومعتديا.

ولعلنا هنا لن نخوض في تفصيل التجريب الذي اعتمده كيفير، ولا عن توضيح الجوانب البنيوية بين المنجز الفني والشعري وتداخل التشابه في كلا التشكّلين الشعري والبصري، بقدر ما سنتعمق في تفاصيل العلاقة المتشابكة بين الشعر والفن التشكيلي، تلك العلاقة التي تُعتبر كتابة ضد الكتابة أو تشكيلا موهما باللغة كما يقول كيفير، فبقدر ما يحمل الشعر الأسئلة يحمل التشكيل الأجوبة وهنا يقع التماس التاريخي الذي ميّز تلك العلاقة وبالخصوص التطوّر المرحلي نحو التجريب المفاهيمي ودلالته الرمزية للغة الشعرية، إذ يعتبر النقاد أن الفن التشكيلي ساهم في تطوير الشعر وأن الشعر أيضا حرّك بصريات الفنانين.

لقد استطاع التشكيلي أن يعبّر عمّا عجز الشعر عن طرحه من صور، وبالتالي كان التكامل في تلازماته مرتبطا بمحاورات خاصة، فالشعر في مستواه الحديث استطاع أن يجاري تطورات الحركة التشكيلية مثل الشعر التعبيري والسريالي والمفاهيمي وتداخل مع الفنون التشكيلية في عناصر الأداء المعاصر والطرح الذي بلغ مستويات التجريب لفنون ما بعد الحداثة.

الشعر والتجريب التشكيلي

Thumbnail

تقع التجارب العربية أمام مهمة خاصة، هي أن التعبير العربي بالشعر له تاريخه الحافل بالصور والتشابيه والمجازات المختلفة والمتنوعة بكل مناحيها الفكرية الحسية الفلسفية الوجودية، التي قادت إلى خلق روح التجريب فيه كعالم مبنيّ على قالب اللغة حيوي برؤى الصور والتصورات.

 وبالتالي فإن البحث في خصوصيات النص تجوّلت عبر مبتكرات القراءة وحجب الغموض التفسيري والسعي إلى تجريده بصريا وحسيا وترميمه رمزيا بخلق تماس ملون لعوالمه المشرقة والمُعتمة الكئيبة والفرحة حسب تدرجات المواقف والأحداث والحالات، فقد تملّك الشعر العربي القديم والحديث، مثل شعر المعلقات وقصائد المتنبي وأبوفراس الحمداني، وقاسم حداد ومحمود درويش وجبران خليل جبران، عوالم الفنانين فصاغوا من لوحاتهم جدليات التحاور تلك التي حفرت القصيد من تراكمات الخامات المصقولة إلى الخامة الحسية الداعمة والمتكاملة.

لقد تحقّقت تلك التفاصيل التوفيقية للوحة من خلال التداخل مع موازين وإيقاعات الترنّم والغنائية وتناقضاتها المشحونة مع الواقع، وقد أخذت الشعر مثل خامة توظيفية لخدمة المفهوم تعبيرا عن الواقع والوقائع وعن الوجدانيات النفسية وما يحدث من صدامات، حيث تمت صياغتها البصرية في تكريب اللوحة تجريديا وتعبيريا في صياغة الأشعار المعتمدة، كما حصل مع تجربة دانا عورتاني في اعتماد المعلقات وقصائد محمود درويش، والتجربة المفاهيمية للسعودية مها الملوح أو في التجريب الحروفي المعاصر والتعبيرية والسريالية، التي عبّرت عن الانتماء والجذور والبحث عن الذات في الوجود والتمازج الحسي المتماهي مع الواقع وصداماته.

 لقد كانت تلك التراكمات كثيفة وهي تعانق المواسم البصرية ومراحل التغني المجازي بالصورة الحسية للشعر في منافذها الرؤيوية وهي تتماطر وتتهاطل وتُشرق أبعد في عمق التصورات الشعرية التي تعتنق نصوصها وترتجلها بصريا وتحملها معها في التجريب التشكيلي بين اللوحة والمنحوتة فتكون من خلالها رؤى أبعد في خيالات الزمن وترقبات المستقبل، وتدافع الحاضر بين أمل وألم بين حسيات واهمة وأفكار عاقلة.

13