الشعب يريد.. والنخب السياسية تفعل ما تريد

طالما استخدمت الحكومات شركات سبر الآراء لمساعدتها في اتخاذ قرارات مهمة واليوم تسهّل التكنولوجيا الرقمية استشارة الشعوب في تسيير مصالحها بشكل مباشر عوضا عن وسطاء.. فلماذا الخوف إذن؟
الخميس 2022/03/24
"الشعب يريد"

في الثالث عشر من أكتوبر 2019، قال المرشح للرئاسة التونسية قيس سعيد في ندوة صحافية مخاطبا التونسيين: “نحاول أن نبني تونس جديدة.. رفعتم شعار الشعب يريد واليوم ها أنتم تحققون إن شاء الله ما تريدون”.

ولكن، ماذا يريد الشعب التونسي حقا؟

خمسة رؤساء خلفوا الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، و13 حكومة تم تشكيلها. انتخابات برلمانية ورئاسية أجريت على مدى 11 عاما، ومازال السؤال غامضا. ماذا يريد التونسيون، وماذا تريد الشعوب العربية التي تلقفت الشعار ورفعته في انتفاضاتها من المحيط إلى الخليج.

ما من بلد عربي إلا واستخدم الشعار فيه مع بعض الإضافات: الشعب يريد إصلاح النظام في الأردن، ويريد المصالحة في فلسطين، وإصلاح الدستور في مصر، وإسقاط النظام الطائفي في لبنان وفي سوريا.. الشعب يريد، ويريد، ويريد.

المشكلة ليست فيما تريده الشعوب، بل كيف يمكن للحكومات أن تحقق ما تطمح إليه شعوبها.

في البدء كان التركيز على مسألة الحريات، السياسية والفردية، وهو ما تلقفته أحزاب المعارضة، رغم أن أغلبها لا يمتلك ثقافة الديمقراطية ولا يحترم الرأي الآخر المخالف له.

مع تحول الربيع العربي إلى شتاء نسي العالم ثورة الياسمين. رغم ذلك صمدت تونس وصمد التونسيون

لم يدم العرس الديمقراطي طويلا، سرعان ما دبّت الخلافات، وساد التذمر من جديد. ارتدادات أزمة 2008، التي كادت تطيح بدول أوروبية، ولم ينقذها سوى تدخل الاتحاد الأوروبي، وصلت إلى الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط.

الدول الأوروبية التي خرجت من الأزمة منهكة شدت الأحزمة، ونسيت الوعود التي أغدقتها، خاصة مع اتساع رقعة الاحتجاجات التي انتشرت في المنطقة العربية، وتدفق أفواج اللاجئين إلى الشواطئ الأوروبية.

ومع تحول الربيع العربي إلى شتاء نسي العالم ثورة الياسمين. رغم ذلك صمدت تونس وصمد التونسيون. وبعد ثماني سنوات مضطربة وأربعة رؤساء اختار التونسيون أستاذ جامعيا مختصا في القانون الدستوري رئيسا لهم.

ما حدث يوم الثالث عشر من أكتوبر 2019 لن يمحى من ذاكرة العالم وهو يرى التونسيين يختارون رئيسا مستقلا خاض غمار الانتخابات بتمويل ذاتي بسيط، رافضا المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية، واستند في حملته إلى مجموعة من المتطوعين الشباب. ليفوز بأغلبية ساحقة ويبدأ عهدته رسميا في الثالث والعشرين من أكتوبر 2019.

“الشعب يريد”، هو الشعار الذي رفعه قيس سعيد في حملته الانتخابية عام  2019، وكان وصوله إلى الدور الثاني إنجازا استثنائيا وصف حينها بالزلزال الانتخابي.

وتأبى الأحداث إلا أن تعاند، بعد ثلاثة أشهر من دخول الرئيس المنتخب قصر قرطاج، في العشرين من يناير 2020 تحديدا، يعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ عن انتشار مرض معد في البلاد. وفي الثالث والعشرين من يناير تتحدث بكين عن إصابة 614 شخصا بالوباء، توفي منهم 17 شخصا. ومع ارتفاع عدد الضحايا، بدأت تتضح خطورة المرض، وانتاب العالم القلق والخوف من توسع انتشار الوباء.

الوضع الصعب يحتاج إلى قرارات صعبة، ونظام الحكم البرلماني المعمول به في تونس لا يتيح للرئيس الذي أسندت إليه صلاحيات محدودة اتخاذها. في الخامس والعشرين من يوليو 2021 أعلن سعيد عن فرض “إجراءات استثنائية” منها تجميد اختصاصات البرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإقالة الحكومة وتعيين أخرى جديدة.

تفاصيل ما حدث، وما زال يحدث، وتداعيات ذلك على الاقتصاد معروفة للجميع. بعد سنوات من الجمود الاقتصادي، يواجه التونسيون أوقات عصيبة، مع تراجع فرص العمل وتدهور نوعية الخدمات العامة وارتفاع الأسعار.

"الشعب يريد"، هو الشعار الذي رفعه قيس سعيد في حملته الانتخابية عام 2019، وكان وصوله إلى الدور الثاني إنجازا استثنائيا وصف حينها بالزلزال الانتخابي

وكأن هذا كله لا يكفي، لتأتي الأزمة الروسية – الأوكرانية لتزيد من تكلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية. وفي نفس الوقت تعلن وكالة “فيتش” الدولية للتصنيف الائتماني عن تخفيض تصنيف تونس السيادي الأمر الذي يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي، وينبئ بالإفلاس.

ما تحتاجه تونس هو قرارات صعبة، زاد من صعوبتها موقف اتحاد الشغل الذي عبّر عن رفضه لأيّ إصلاحات مؤلمة تستهدف الشعب، معتبرا أن الأجور ضعيفة أصلا والقدرة الشرائية تآكلت ما يستدعي رفع الأجور بدلا من التفكير في تجميدها.

ويمتلك اتحاد الشغل، نحو مليون عضو، وهو قادر على شل الاقتصاد بإضرابات، وأجبر في السنوات السابقة حكومات على التخلي عن سياسات غير شعبية.

في هذه الظروف المعقدة اختار قيس سعيد اللجوء إلى الشعب الذي منحه الشرعية ليسأله ماذا يريد؟

وهذا ما حصل، في منتصف يناير الماضي، انطلقت الاستشارة الوطنية على منصة إلكترونية، لجمع آراء التونسيين حول مواضيع سياسية واجتماعية واقتصادية. وبدلا من أن ترحّب النخب، التي طالما تغنت بفضائل الديمقراطية، بهذه الفرصة، دعت إلى مقاطعة الحملة وشنت هجوما على سعيد واتهمته بالشعبوية، وأنه يمهد بهذه الاستشارة لإجراء تعديلات، لاسيما على الدستور، لتعزيز عملية جمع كل السلطات بيده.

الرئيس التونسي لم ينف ذلك، مؤكدا أن أمام الجميع في تونس فرصة للتعبير عن رأيهم في النظام السياسي الجديد قبل أن تبدأ لجنة بصياغة التوجهات العامة للإصلاحات الدستورية. وأن الحوار المباشر مع الشعب، سيتواصل.

وقال سعيد في كلمة بثت تلفزيونيا إن “أكثر من نصف مليون شاركوا في الاستشارة الإلكترونية رغم حملات الازدراء والتشويه والعقبات حتى هذا المساء (يوم الأحد) من قبل أطراف. وتم قطع المشاركة في هذه العملية الفريدة من نوعها من قبل هؤلاء الذين لا يريدون أن يعبر الشعب عن إرادته”.

طالما استخدمت الحكومات شركات سبر الآراء لمساعدتها في اتخاذ قرارات مهمة. واليوم تسهل التكنولوجيا الرقمية استشارة الشعوب في تسيير مصالحها بشكل مباشر، عوضا عن وسطاء، فلماذا الخوف إذن، أليست الديمقراطية هي “حكم الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب”، أم أن الحكم يجب أن يتم عبر وسطاء ومقاولين من النخب السياسية؟

9