الشعب هرب

فكرة التستر خلف حياة المثليين ليست إلا ذريعة لكشف العديد من الخفايا في مجتمع يعيش أزماته ويتصدى لها بروح من الكوميديا السوداء التي تم اعتمادها كأسلوب عرض وتشريح ومعالجة.
الثلاثاء 2022/01/04
معايير مبهمة

“الشعب هرب” سيناريو فيلم كتبته من وحي ما يحدث في تونس بعد الرابع عشر من يناير 2011 وتعطل تنفيذه فأودعته أدراج النسيان وهيئة حقوق المؤلف، خشية أن يُسرق كما تُسرق أحلام الفقراء كل يوم.

الشخصيتان المحوريتان هما “الشاذلي التونسي” وصديقه “نصري الفلسطيني” وهما أعزبان في منتصف العمر، وقد تأخرا عن قطار الزواج.

عاش الاثنان أحداث الحرب اللبنانية وكانا رفيقين في المقاومة المسلحة، لكن جملة الانتكاسات والخيبات السياسية والأيديولوجية، جعلت المطاف ينتهي بهما إلى تقاسم غرفة متواضعة على السطح بالعاصمة تونس، ويمتهنان تربية وبيع العصافير في انتظار فرصة حياة كريمة.

يحلم الاثنان بالسفر إلى أوروبا لتدارك ما فات بعد أن سفحا العمر في أوهام وزيف الأيديولوجيات، لكن العمر لا يسمح بالمغامرة وامتطاء المراكب المتهالكة فكان لا بد من تأشيرة نظامية، وهو ما يبدو شبه مستحيل وهما في منتصف العمر.

يهتديان إلى فكرة تناسب سن الاثنين وهو أن يقدما ملفهما إلى إحدى السفارات الأجنبية كطالبي لجوء إنساني تحت ذريعة أنهما من المثليين جنسيا، ويتعرضان إلى التنمر والإهانة، لكن كيف السبيل إلى الإقناع وهما بعيدان عن هذا العالم؟

ما كان من هذه الحيلة التي أوحى بها إليهما شاعر صعلوك ذات جلسة خمرية إلا أن أوقعت الرجلين ذوي الشاربين الكثيفين والملامح الذكورية النافرة، في المزيد من الإرباك والصراع النفسي ضمن منظومة قيم مجتمعية تنظر إلى المثلية الجنسية بالكثير من عدم التسامح.

الخطة تقتضي أن يقوم الاثنان بـ”بروفات” يومية لتقليد حركات وطريقة تحدث هذه الفئة من الناس في ما يظنانه أمرا كفيلا بإقناع السفارة الأجنبية أثناء إجراء مقابلة طلب اللجوء الإنساني.

وللمزيد من إضفاء نوع من المصداقية، يقترب الشاذلي ونصري من عالم المثليين فيكتشفان ما يعيشه ويعانيه هؤلاء عبر نماذج بشرية متنوعة لا يمكن وضعها في سلة واحدة، فمنهم الفنان والمجرم وذو النزوع التكفيرية والإرهابية.. الأمر الذي يبدد لديهما تلك النظرة النمطية السائدة.

فكرة التستر خلف حياة المثليين ليست إلا ذريعة لكشف العديد من الخفايا في مجتمع يعيش أزماته ويتصدى لها بروح من الكوميديا السوداء التي تم اعتمادها كأسلوب عرض وتشريح ومعالجة.

وبصرف النظر عن نتيجة المقابلة التي تمت في السفارة الأجنبية ووقع فيها قبول واحد دون الآخر وفق معايير مبهمة، وما رافق ذلك من مفارقات تبدو في ظاهرها كوميدية، لكن عمقها يكشف عن مرارة قاسية ووجع كبير.

وجع يتأتى من غربة تنخر الروح وتصيبها بالوهن في مجتمعات خذلت نفسها بنفسها فأمسى أفرادها يتسابقون نحو الوصول إلى الضفة الأخرى بأي ثمن.. وقد يكون كاتب هذه القصة واحدا منهم في ذهابه نحو موضوع قد ينال استحسان الغرب الأوروبي والأميركي وحده.

20