الشعارات المستحيلة

الحضارة هي السعي الدائم لتحقيق التوازن شبه المستحيل، والمبني على معادلة “لا إفراط ولا تفريط”.. هذا الشعار الذي سوف نظل نرفعه مدة ألف عام أخرى، ولن يتحقق.
الثلاثاء 2023/07/04
من أين وكيف تبدأ علاقتنا بالأجداد وأين ومتى تتوقف؟

قال الكندي الملقب بفيلسوف العرب ينصح ابنه: يا بني، الأب رب، والعم غمّ والخال وبال، والأقارب عقارب، وقول “لا” يزيل البلاء، أمّا قول “نعم” فيصرّف النعم.

يفهم من هذا السياق أن العرب كانوا سبّاقين أيضا، في الدعوة إلى الانعزال الاجتماعي ونبذ مؤسسة العائلة الموسعة والقرابات البعيدة عن الأسرة الضيقة.

مخطئ إذن من يعتقد جازما في قول الشاعر الجاهلي “ما أنا إلا من قبيلة تغزو إن غزوت”..

الاعتماد على الولاءات العائلية من الصفوف الثانية والثالثة معمول به ويعوّل عليه في بعض الأنظمة الاجتماعية والسياسية العربية، لكنه كثيرا ما يجلب “وجع الراس” كما أثبتت التجارب، لذلك اتفق الناس على أن الباب الذي تأتي منه الريح، من الأفضل أن نسده ونستريح.

وها هو الكندي، في نصيحته لولده، يبقي على أهمية الأسرة المصغرة بل ويحترمها إلى حد الإجلال، لكنه، وفي المقابل، يستهتر بالقرابات البعيدة بل ويشبهها بالغم والوبال.

أما الأغرب في هذه الوصية التي تنضح سجعا وجناسا أن الكندي ينصح بإحكام ذات اليد إلى درجة أن الجاحظ صنفه واحدا من أبطال كتابه الشهير، وخصه بفصل طريف سمّاه “شروط الكندي على سكان داره”، وهو العربي الذي لم تشب دمه شائبة وسط شخصيات فارسية في معرض رده على الشعوبية.

ويبدو أن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الذي نشأ وعاش في مدينة البصرة، واعتنق المنطق على يد أستاذه المعتزلي أبي إسحاق النظام، استخدم البخلاء لشرح نظرية التوليد السقراطي، فنراهم في غالبيتهم متفلسفين ومحبين للحكمة ثم أن جميعهم من أبناء الحواضر والمدن.

وانطلاقا من هذه المعطيات، تتجلى الحضارة لدى الكندي والجاحظ وغيرهما من المفكرين، هي الابتعاد عن السلوك الريفي والبدوي المتمثل في الكرم المبالغ فيه، وكذلك الالتفاف العائلي والقبلي الذي يلزم كل فرد بالالتزام المطلق بنواميس وأعراف القبيلة.

واستنادا على ما تقدم، يتضح أن التفكير المدني يلزم صاحبه بالتخلي عن بعض العادات والتقاليد التي طالما اعتززنا بها وحسبناها من موروثنا العريق..

وهنا مربط الفرس: من أين وكيف تبدأ علاقتنا بالأجداد وأين ومتى تتوقف؟ المعضلة أن الأنكى والأصعب من الصراع بين البداوة والمدنية، هو النزاع القيمي داخل المنظومة الأخلاقية الواحدة.

الكرم، مثلا، قيمة تقدرها كل الثقافات عبر التاريخ البشري، فليس هناك من أمة تمجّد البخل أو الانحلال الأسري مثلا، لكن من العرب من آثر السرقة واختارها حلا لتلبية قيمة الكرم حين وجد نفسه فقيرا مفلسا.

وانطلاقا من هذه المعطيات، تصبح الحضارة هي السعي الدائم لتحقيق التوازن شبه المستحيل، والمبني على معادلة “لا إفراط ولا تفريط”.. هذا الشعار الذي سوف نظل نرفعه مدة ألف عام أخرى، ولن يتحقق.

18