الشر الناعم

تجربة بسيطة كأن يفقد أيّ واحد هاتفه، تكفي ليعرف إلى أيّ حد صار الإنسان معلقا بآلته إلى درجة استحداث عبودية جديدة.
الثلاثاء 2024/11/05
أي علاقة للإنسان بهاتفه؟

الجميع معرّض لأن يفقد هاتفه الذكي، فيفقد معه خيوط الاتصال بالعالم الخارجي، إن لم يضيع بياناته وحساباته وحتى أمواله، ولو خُيّر بين أن يدفع الجزية لسارق هاتفه مثلا مقابل أن يحافظ على هاتفه، لاختار الأولى، لأنه حينها يكون قد اكتشف أن حياته وعالمه مختزلان في تلك الآلة الصغيرة.

الكثير من العواصم والمدن في العالم تنظم يوما دون سيارة، من أجل العودة إلى حركة الأقدام والسيقان، ومن أجل الحفاظ على البيئة وتنقية الطبيعة من الغازات، وقد يفكر الإنسان مستقبلا في يوم دون هاتف، من أجل استعادة الأفراد والأسر لروح الجماعة والحميمية الاجتماعية.

الهاتف الذكي أحدث ثورة جذرية في عالم الاتصالات، وحوّل العالم الذي أدهشه تطور القرية الصغيرة خلال العقود الماضية، إلى هذه الآلة العجيبة التي لا تزيد عن راحة اليد الواحدة، وفوق ذلك سرق الإنسان من عالمه الاجتماعي ومن حياته الأسرية، فصار الحوار والعلاقات على شبكات التواصل الاجتماعي، أكثر بكثير من حكايات الأجداد والجدات وتبادل الأحاديث بين أفراد الأسرة الواحدة.

في العائلة الواحدة يلتقي الأبناء والآباء، لكن لكل هاتفه وعالمه وعلاقاته، ويفترق الكل إلى ذاته فيخيم الفتور على العلاقات الأسرية والحياة الاجتماعية، وهو الجرس الذي ما فتئ يطلقه المختصون في علوم النفس والاجتماع، بما يعتبرونه خطرا يهدد الحياة الاجتماعية والعلاقات الأسرية.

إذا صح التأريخ بعالم تكنولوجيا الاتصالات فإن عزلة الإنسان داخل محيطه بدأت مع غزو الهاتف الذكي للحياة الاجتماعية، والسؤال المطروح كيف يتحول مثلا الأب مع ابنه والأم مع ابنتها، والزوج مع زوجته، إلى “أصدقاء” بمنطق شبكات التواصل الاجتماعي القابعة على هواتفهم.

لكن مع ذلك لا يمكن إنكار جميل التكنولوجيا في ما وفرته للإنسان من رقي وتسهيل للحياة، والكل الآن يتساءل عن مصير الإنسان والعالم برمته لو تعطلت مثلا شبكة النت، أو انهارت أنظمة الهواتف الذكية، سينتاب الجميع الفزع من العودة إلى عصر ما قبل التكنولوجيا.

وتكفي تجربة بسيطة كأن يفقد أيّ واحد هاتفه، ليعرف إلى أيّ حد صار الإنسان معلقا بآلته إلى درجة استحداث عبودية جديدة واكبت العصر بعلاقة مستجدة تجمع بين الشر والنعومة، فهي بقدر ما تلحقه من ضرر، بقدر ما تبرز فضائلها عليه، فقضاء ساعات في طابور بشري لقضاء معاملة ما، صار مختصرا في نقرة زر في لمح البصر.

لقد نفذت أجهزة الاتصالات اللاسلكية مجزرة في صفوف أتباع حزب الله اللبناني، بتدبير وتنفيذ إسرائيلي، وفي العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، عاد المقاومون إلى الرسائل الشفهية تفاديا لأيّ اختراق يهز صفوفهم، ورغم ذلك لم تهتز شرعية ولا مشروعية هذه التكنولوجيا، لأن الإجماع قائم على أنه لا مناص منها مهما كانت الدواعي.

لكن إلى وقت قريب كان موظفو أيّ شركة يقومون بالحضور إلى المقر المركزي من أجل أيّ اجتماع، بما يترتب على ذلك من عناء سفر وتكاليف ونفقات على خزينة الشركة، أما الآن فصار يكفي هاتف ذكي وشبكة اتصالات للاجتماع يوميا بين أعضاء الشركة الواحدة، وذلك إنجاز غير مسبوق في حياة عالم الأعمال.

الهاتف الذكي وإن تم تصنيفه في خانة الشرور المستجدة في حياة الإنسان فإن نعومته تشفع له لأن يتعايش معه الإنسان، ويمكن له أن يقيم معه علاقة أكثر ندية وعقلانية في إطار مقاربة تعيد إفراز أدوار جديدة للإنسان داخل محيطه الإنساني والتكنولوجي.

18