الشرق الأوسط.. تاريخ مثقل بالدم

منذ بدايات القرن العشرين، تحوّلت الاغتيالات السياسية في الشرق الأوسط إلى أداة مركزية في إدارة الصراع على السلطة والنفوذ. لم تكن مجرد حوادث عارضة، بل رسائل دموية غالباً ما أعادت رسم المشهد السياسي لدول بأكملها. ففي منطقة تتقاطع فيها الديناميكيات الدينية بالقومية، وتتداخل فيها الأجندات المحلية مع حسابات إقليمية ودولية، بات الاغتيال وسيلة من وسائل “إعادة ترتيب الأوراق.”
في هذا السياق، لم تعد الاغتيالات انفعالات طارئة، بل قرارات محسوبة تتخذها أطراف تمتلك أدوات التنفيذ وتسعى لتغيير جذري في موازين القوى، وشكل من أشكال “الهندسة العنيفة” للمشهد السياسي، يُستبدل فيها التدرج بالتصفية، والحوار بالإقصاء الدموي.
من مصر إلى العراق، ومن الأردن إلى لبنان، لا تكاد تخلو ذاكرة الشعوب من لحظة اهتز فيها نظام سياسي تحت وطأة انفجار، أو رصاصة صامتة أُطلقت في وضح النهار.
في مصر، شكّل اغتيال بطرس غالي عام 1910، رئيس الوزراء المعروف بدعمه للوجود البريطاني، لحظة مبكرة في هذا المسار. لم يكن مجرد احتجاج على سياسات استعمارية، بل إيذاناً باستخدام الاغتيال كأداة سياسية ممنهجة. وقد تكررت الظاهرة في الأربعينات، مع لجوء جماعة الإخوان المسلمين إلى تصفية خصومهم، فاستهدفت رصاصاتهم أحمد ماهر ومحمود النقراشي، في مسعى لتوجيه دفة السلطة.
◄ إذا كان الاغتيال قد رسم خرائط السلطة في القرن العشرين، فإن منع تكراره هو ما سيحسم ملامح القرن الحادي والعشرين
من بين القوى التي وظّفت الاغتيال كأداة إستراتيجية تبرز جماعة الإخوان المسلمين بوصفها نموذجاً لتيار أيديولوجي لم يتردد في استبدال السياسة بالعنف حين اصطدمت طموحاته بجدران الدولة. فمنذ أربعينات القرن الماضي شكّلت الجماعة جهازًا سرّياً نفّذ عمليات تصفية بحق شخصيات سياسية ووزراء، في محاولات صريحة لتقويض النظام من الداخل. لم يكن ذلك انحرافاً مؤقتاً، بل خياراً بنيويًا، عاد إلى الظهور بأشكال مختلفة في مراحل لاحقة، سواء عبر استهداف الخصوم المباشرين، أو عبر تسهيل اختراق الجماعات المتطرفة. وهكذا، لم تكن الجماعة فاعلًا سياسيًا تقليديًا، بل كياناً متعدّد الوجوه، يوظّف الدين والعنف معاً لتحقيق أهدافه، حتى لو كان الثمن هو تفجير الدولة نفسها.
أما في العراق ، فقد جاء اغتيال توفيق الخالدي عام 1924 ليؤكد أن النخب الوطنية لم تكن بمأمن من صراع المصالح الكبرى، خصوصاً في ظل الانتداب البريطاني. ومع كل عملية اغتيال كانت فرص الدولة العراقية للاستقلال الحقيقي تتراجع، لصالح قوى إقليمية ودولية استثمرت في تصفية الرموز.
في الأردن، كان اغتيال الملك عبدالله الأول عام 1951 لحظة زلزال سياسي ونفسي. فالرجل الذي كان يُنظر إليه كأحد ركائز التوازن العربي، سقط برصاصة أثناء أداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، في رسالة تتجاوز شخصه إلى مشروع الدولة نفسه.
ولم تمرّ سنوات كثيرة حتى وقع اغتيال رئيس الوزراء هزاع المجالي عام 1960، في تفجير استهدف مكتبه وسط العاصمة عمّان. كانت الرسالة واضحة، زعزعة مركز القرار، وتوجيه إنذار صريح للنخبة الحاكمة. لكن الرد الأردني، آنذاك، اتسم بالتماسك، وأثبتت الدولة قدرتها على تجاوز الصدمة.
وفي لبنان، مثّلت الاغتيالات عنصرًا دائم الحضور في المشهد السياسي، بفعل تعقيدات الطائفية والارتباطات الخارجية. اغتيال رفيق الحريري عام 2005 لم يكن مجرد خسارة سياسية، بل نقطة تحوّل أعادت رسم ملامح الاصطفاف الإقليمي، وأسهمت في إخراج القوات السورية من البلاد، وأطلقت مرحلة جديدة من عدم الاستقرار.
◄ من بين القوى التي وظّفت الاغتيال كأداة إستراتيجية تبرز جماعة الإخوان المسلمين بوصفها نموذجاً لتيار أيديولوجي لم يتردد في استبدال السياسة بالعنف
أما العراق، فبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، تحوّلت الاغتيالات إلى مشهد شبه يومي، لا يُفسَّر فقط بالعنف الطائفي، بل كذلك بالصراع بين القوى الدولية والإقليمية على مستقبل البلاد. بات الاغتيال أداة لتصفية الحسابات، أو لفرض وكلاء سياسيين في مشهد مشوش ودامٍ.
ورغم أن مشهد الاغتيالات ارتبط طويلاً بصورة الرصاصة أو الانفجار، إلا أن أدوات التنفيذ نفسها تطورت. فقد دخلت التقنيات الحديثة – من الطائرات المُسيّرة (الدرونز) إلى الهجمات السيبرانية – على خط التصفيات، كما شهدنا في عمليات نُسبت إلى أجهزة استخباراتية في المنطقة، استهدفت شخصيات داخل دول تعتبر محصنة أمنياً. لكن مع تطور الوسائل، لم تتغيّر الغاية، إنهاء تأثير سياسي، أو إعادة تشكيل موازين القوى عبر تغييب الرأس الفاعل.
تتميّز الاغتيالات السياسية في الشرق الأوسط بطابعها الرمزي، فهي لا تستهدف الجسد فقط، بل تحاول اغتيال الفكرة والاتجاه والمشروع. وعندما تتحول الرصاصة إلى لغة تفاوض تكون السياسة نفسها على المحك. في اليمن وسوريا وليبيا، ما تزال عمليات الاغتيال تستهدف النخب، وتُجهض كل إمكانية حقيقية لبناء الدولة أو تحقيق تسوية.
رغم هذا التاريخ المثقل بالدم، لا يزال الأمل قائماً في أن تنتصر منطقية السياسة على فوضى الرصاص. يتطلب ذلك بناء مؤسسات سيادية حقيقية، وفرض تداول سلمي للسلطة، وتقليص التدخلات الخارجية التي لطالما حوّلت دول المنطقة إلى ساحات لتصفية الحسابات الدولية.
فالاغتيال قد يسقط شخصاً، لكنه لا يسقط الفكرة، ما لم تُستكمل الجريمة بمنظومة قمع سياسي تُغلق الأفق تماماً. وهنا يُطرح السؤال المؤجل، هل سينجح الشرق الأوسط في طيّ صفحة الاغتيال، أم أن هذا السلاح سيظل حاضراً كلما فشل الحوار وغاب المشروع؟
إذا كان الاغتيال قد رسم خرائط السلطة في القرن العشرين، فإن منع تكراره هو ما سيحسم ملامح القرن الحادي والعشرين. فالعبرة لا تكمن في السقوط السريع للرموز، بل في القدرة على بناء أنظمة سياسية ترفض العنف وتحترم الحوار والتفاهم.